خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
٢٨٣
-البقرة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { فرهان }: خبر، أو مبتدأ، أي: فالمستوثق به رهان، أو فعليه رهان.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { وإن كنتم على } جناح { سفر } أي: مسافرين، { ولم تجدوا كاتباً } يكتب شهادة البيع أو الدين، فالمستوثق به عروضاً من الإشهاد: { رهان مقبوضة }. وليس السفر شرطاً في سحة الارتهان، لأنه عليه الصلاة والسلام:
"رَهَنَ دِرْعَه عند يهودي بالمدينة في شَعِير" لكنّ لمّا كان السفر مَظنَّة إعواز الكتاب، ذكره الحق تعالى حكماً للغالب. والجمهور على اعتبار القبض فيه، فإن لم يقبض حتى حصل المانع، فلا يختص به في دينه، { فإن أمن بعضكم بعضاً } واستغنى بأمانته عن الارتهان، لوثوقه بأمانته فداينه بلا رهن، { فليؤد الذي أؤتمن أمانته } أي: دينه، وسماه أمانة؛ لائتمانه عليه بلا ارتهان ولا إشهاد، { وليتق الله ربه } في أداء دينه وعدم إنكاره.
{ ولا تكتموا الشهادة } أيها الشهود، أو أهل الدين، أي: شهادتهم على أنفسهم، { ومن يكتمها } منكم بأن يمتنع من أداء ما تحمل من الشهادة، أو من أداء ما عليه من الدين، { فإنه آثم قلبه } حيث كتم ما علمه به، لأن الكتمان من عمل القلوب فتعلق الإثم به، ونظيره: "العين زانية وزناها النظر"، أو أسنده إلى القلب، مبالغة؛ لأنه رئيس الأعضاء، فإذا أثم قلبه فقد أثم كله، وكأنه قد تمكن الإثم منه فأخذ أشرف أجزائه، وفاق سائر ذنوبه، ثم هدد الكاتمين فقال: { والله بما تعملون عليم }؛ لا يخفى عليه ما تبدون وما تكتمون، رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من كَتَمَ شهادةً إذا دُعِي - كَان كَمَنْ شَهِدَ بالزُّور" .
الإشارة: كما أمر الله تعالى بتقييد الديون الدنيوية، والاعتناء بشأنها، أمر بتقييد العلوم اللدنية والوردات القدسية والاغتباط بأمرها، بل هي أولى؛ لدوام ثمراتها وخلود نتائجها، فإن الحكمة ترد على القلب من عالم القدس عظيمة كالجبل، فإن أهملتها ولم تبادر إلى تقييدها، رجعت كالجمل، فإن أخرتها رجعت كالطير، ثم كالبيضة، ثم تمتحي من القلب، وفي هذا المعنى قيل:

العلمُ صيدٌ والكتابةُ قَيْدُه قَيِّدْ صُيودَك بالحِبَالِ المُوثِقَهْ
وَمِنَ الجَهَالة أن تصِيدَ حمامةً وتتركُها بَيْنَ الأوانِس مطلقهْ

فإن لم يسحن الكتابة، فليملله على من يُحسنها، ولا يبخس منه شيئاً، بل يمُليه على ما ورد في قلبه، فإن كان ضعيف العبارة، فليملل عنه من يحسنها بالعدل، من غير زيادة ولا نقصان في المعنى، وليُشهد عليها رجال أهل الفن وهم العارفون، فإن لم يكونوا، فمن حضر من الفقراء المتمكنين؛ لئلا يكون في تلك الحكمة شيء من الخلل؛ لنقصان صاحبها، أو: وليُشْهِد على ذلك الوارد عدلين، وهما الكتاب والسنّة، فإن كان موافقاً لهما، قُبل، وإلا رُدَّ.
قال الجنيد رضي الله عنه: إن النكتةَ لتقع في قلبي فلا أقبلها إلا بشهادة عَدْلَين: الكتاب والسنّة. هـ. وإن كنتم مستعجلين، ولم تجدوا كاتباً، فارتهنوها في قلوب بعضكم بعضاً، حتى تُقيد. ومن كتم الواردات عن شيخه أو إخوانه، فقد أثم قلبه؛ لأنه نوع من الخيانة في طريق التربية. والله تعالى أعلم.