خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

طه
١
مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ
٢
إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ
٣
تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلْعُلَى
٤
ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ
٥
لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ
٦
وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى
٧
ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ
٨
-طه

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: عن ابن عباس أن "طه" من أسماء الله تعالى، وقيل: معناه: طوبى لمن هدى، وقيل: يا طاهر يا هادي، فالطاء تشير إلى طهارته صلى الله عليه وسلم وتطهيره من دنس الحس، والهاء تشير إلى هدايته في نفسه، وهدايته غيره إلى حضرة القدس.
ورُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لي عشرة أسماء..." فذكر أن منها "طه ويس"، وقيل: معناه: طِئ الأرض بقدمك؛ لأنه كان يرفع رِجْلاً في الصلاة ويضع أخرى في طول تهجده، فأبدل الهمزة ألفًا، والضمير للأرض، ورُد بأنه لو كان كذلك لكُتبت بالألف، فإنَّ الكتابة بصورة الحرف مع التلفظ بخلافه من خصائص حروف المعجم. وقيل: معناه: يا رجل. وهو مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم، وهو عندهم على اللغة النبطية، أو السريانية. قيل: من جعل معنى "طه" يا رجل، لم يقل على طه، وكذا من جعله اسمًا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النداء تنبيه على ما بعده، ومن جعلها افتتاحًا، أو على وجه من الوجوه المذكورة في البقرة، وقف عليها، إلا في قول من جعلها قَسَمًا، فإنه لا يقف عليها؛ لأن قوله: { ما أنزلنا... } الخ جواب قسم.
قلت: المتبادر من سبب نزولها ومن قوله: { ما أنزلنا }: إما القسم أو النداء، فالقَسَم على أن ذلك من أسماء الله، والنداء على كون ذلك بمعنى يا رجل، أو من أسمائه صلى الله عليه وسلم. وأمَّا غير ذلك فبعيد، إلا أن يكون ما بعد ذلك استئنافًا بعد الوقف على "طه". قاله في الحاشية.
و { إلاَّ تذكرة }: مفعول لأجله. والاستثناء منقطع، أي: ما أنزلناه لتتعب به، لكن أنزلناه للتذكرة والوعظ، و { تنزيلاً }: مصدر مؤكد لمضمر مستأنف مقرر لما قبله، أي: أنزل تنزيلاً، والأصح: أنه بدل من اللفظ بفعله الناصب له، فلا يجمع بينه وبين المبدل منه، وفيه معنى التأكيد لما قبله، أو هو نص في معناه، وإنما تلون الكلام بالالتفات، أو منصوب على المدح والاختصاص، أو مفعول بيخشى، أو حال من "القرآن"، و { الرحمن }: رفع على المدح، وقد عرفت أن المرفوع مدحًا، في حكم الصفة الجارية على ما قبلها، وإن لم يكن تابعًا له في الإعراب، ولذلك ألزموا حذف المبتدأ؛ ليكون في صورة متعلقٍ من متعلقاته. وقرئ بالجر؛ صفةً للموصول، وما قيل من أن الموصولات لا تُوصف إلا بالذي وحده فمذهب كوفي، أو { الرحمن }: مبتدأ، و { على العرش }: خبره. و { على }: متعلقة باستوى، قُدمت للفواصل. و { إن تجهر }: شرط، والجواب محذوف دل عليه { فإنه... } الخ، أي: فالله غني عن جهرك، فإنه... الخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم، أو ترويحًا له من التعب: يا محمد { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } أي: لتتعب نفسك بالمجاهدة في العبادة.
رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم كانَ يَقُومُ باللّيل حَتَّى تَوَرّمَتْ قَدَمَاهُ، فقَالَ لهُ جِبْرِيلُ عليه السلام: "أبْق عَلى نَفْسِكَ، فإِنَّ لَها عَلَيْكَ حَقًا". أي: ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك وحملها على الرياضَات الشاقة، و الشدائد الفادحة، وما بعثتَ إلا بالحنيفية السمحة. أو: ما أنزلناه لتتعب نفسك في تبليغه بمكابدة الشدائد في مقاومة العتاة ومحاورة الطغاة، وفرط التأسف على كفرهم والتحسر على إيمانهم، كقوله:
{ { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [الشُّعَرَاء: 3]، بل للتبليغ، وقد فعلت. وإطلاق الشقاء في هذا المعنى شائع، ومنه قولهم: أشقى من رائض مُهر، وقيل: إن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك شقي، حيث تركت دين آباءك، وما نزل عليك هذا القرآن إلا لتشقى، فردَّ اللهُ ذلك عليهم. والأول أظهر، والعموم أحسن، فإنه نفى عنه جميع الشقاء في الدنيا والآخرة.
{ إِلا تذكرةً لمن يخشى } أي: ما أنزلناه لتتعب، لكن أنزلناه تذكرة وموعظة لمن يخشى الله - عزّ وجلّ -، ليتأثر بالإنذار، لرقة قلبه ولين عريكته، أو لمن عَلِمَ الله أنه يخشى بالتخويف، وتخصيصها بهم مع عموم التذكرة والتبليغ؛ لأنهم المنتفعون بها.
{ تنزيلاً } أي: أنزل تنزيلاً، أو حالَ كَوْنِ القرآن تنزيلاً، أي: منزلاً { ممّن خلق الأرض والسماوات العلى }، ونسبة التنزيل إلى الموصول بعد نسبته إلى نون العظمة بقوله: { ما أنزلنا }؛ لبيان فخامته تعالى بحسب الأفعال والصفات، إثر بيانها بحسب الذات بطريق الإبهام، ثم التفسير لزيادة تحقيق وتقرير. وتخصيص خلقهما بالذكر؛ لتضادهما. وتقديم الأرض لكونه أقرب إلى الحس، ووصف السماوات بالعُلى، وهو جمع "عليا"؛ لتأكيد الفخامة مع ما فيه من مراعاة الفواصل. وكل ذلك إلى قوله: { له الأسماء الحسنى }، مسوق لتعظيم المنزل - عزّ وجلّ - المستتبع بتعظيم المنزَّل عليه، الداعي إلى تربية المهابة وإدخال الروعة، المؤدية إلى استنزال المتمردين عن رتبة العتو والطغيان، واستمالتهم إلى الخشية، المفضية إلى التذكير والإيمان.
ثم قال تعالى: { الرحمنُ } أي: هو الرحمن، ووصف تعالى بالرحمانية إثر وصفه بالخالقية؛ للإيذان بأن ربوبيته تعالى، وقيامَه بالأشياء، من طريق الرحمة والإحسان، لا بالإيجاب، وفيه إشارة إلى أن تنزيله القرآن أيضًا من رحمته - تعالى -، كما ينبئ عنه قوله عزّ من قائل:
{ { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } [الرَّحمن: 1،2]. أو: { الرحمن على العرش استوى } : مبتدأ وخبر، وجعل الرحمة عنوان الموضوع الذي من شأنه أن يكون معلوم الثبوت للموضوع عند المخاطب؛ للإيذان بأن ذلك أمر بيِّن لا خفاء فيه، غني عن الإخبار صريحًا. والاستواء على العرش مجاز عن المُلك والسلطان، يقال: استوى فلان على سرير الملك؛ مرادًا به مَلَك الملك والتصرف، وإن لم يقعد على سرير أصلاً، والمراد: تعلق قدرته وقهريته في جميع الكائنات بالتدبير والتصرف التام.
وسُئل أحمد بن حنبل عن الاستواء، فقال: استواء مَنْ غَلَبَ وقهر، لا استواء كما يتوهم البشر. وسئل عنه مالك والشافعي - رضي الله عنهما - فقالا: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عن هذا بدعة وضلالة، آمنوا بلا تشبيه، وصدّقوا بلا تمثيل، وأمسكوا عن الخوض في هذا كل الإمساك.
وقال الجنيد رضي الله عنه: خلق الله العرش فوق سبع سماوات، وجعله قبلة لدعاء المخلوقات، وقابله بقلب عبده المؤمن، ليكون محلاً للتجليات والتنزلات والمخاطبات. هـ. وقد تقدم الكلام عليها في الأعراف مستوفيًا.
{ له ما في السماوات وما في الأرضِ }، سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلول فيهما، { وما بينهما } من الموجودات الكائنة في الجو دائمًا، كالهواء والسحاب، أو أكثريًا؛ كالطير، أي: له ذلك وحده دون غيره، لا شركةً ولا استقلالاً، كل ما ذكر هو له؛ ملكًا وتصرفًا، وإحياء وإماتة، وإيجادًا وإعدامًا، { وما تحت الثرى }: وما وراء التراب المتصل بالهوى السفلى. وعن محمد بن كعب: أنه ما تحت الأرضين السبع. وعن السدي: أن الثرى هو الصخرة التي عليها الأرض السابعة، وذكره مع دخوله تحت ما في الأرض؛ لزيادةِ التقرير. { وإِن تجهر بالقول } أي: وإن تجهر بذكره تعالى - أو دعائه -، فاعلم أنه تعالى غني عن جهرك؛ { فإِنه يعلمُ السرَّ وأخْفَى } أي: ما أسررته إلى غيرك، وشيئًا أخفى من ذلك، وهو ما أخطرته ببالك، من غير أن تتفوه به أصلاً أو:: السر: ما أسررته في نفسك، وأخفى منه: ما ستُسره في المستقبل. وهو إمّا نهي عن الحركة، كقوله تعالى:
{ { وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } [الأعرَاف: 205]، وإما إرشاد للعباد إلى أن الجهر ليس لإسماعه تعالى؛ بل لغرض آخر من تأنيس النفس بالذكر وتثبيته فيها، ومنعها من الاشتغال بغيره، وقطع الوسوسة عنها، وهضمها بالتضرع والجؤار. هذا والغرض من الآية: بيان إحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء، إثر بيان سعة سلطانه وشمول قدرته بجميع الكائنات.
ثم بيَّن الموصوف بتلك الكمالات، فقال: { الله } أي: ما ذكر من صفات الكمال، موصوفها الله المعبود بالحق، { لا إِله إِلا هو } أي: لا معبود بحق إلا هو، ولا مستحق للعبادة إلا هو. وهو تصريح بما تضمنه ما قبله من اختصاص الألوهية به سبحانه، فإنَّ ما أسند إليه تعالى من خلق جميع الموجودات، ومن الرحمانية والمالكية للكل، والعلم الشامل، يقتضي اختصاصه تعالى بالألوهية والربوبية، وقوله تعالى: { له الأسماء الحسنى } بيان لكون ما ذكر من الخالقِية والرحمانية والمالكية والعالِمِية أسماءه تعالى وصفاته، من غير تعدد في ذاته تعالى؛ فالأسماء والصفات كثيرة، والمسمى والموصوف واحد. و { الحسنى }: تأنيث الأحسن، فُعلى، يُوصف به الواحد المؤنث، والجمع المذكر والمؤنث، كـ
{ { مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [طه: 18]، و { { آيَاتِنَا ٱلْكُبْرَىٰ } [طه: 23]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من تأمل القرآن العظيم، وما جاء به الرسول - عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم - وجده يدل على ما يُفضي إلى الراحة دون التعب، وإلى السعادة العظمى دون الشقاء، لكن لا يتوَصل إلى الراحة إلا بعد التعب، ولا يُفضي العبد إلى السعادة الكبرى إلا بعد الطلب، فإذا اجتهد العبد في طلب ربه، وكله إلى شيخ ينقله من عمل الجوارح إلى عمل القلوب، فإذا وصل العمل إلى القلب استراحت الجوارح، وأفضى حينئذ إلى رَوْح وريحان، وجنة ورضوان، أعني جنة العرفان. ولذلك قال الشيخ أبو الحسن: "ليس شيخك من يدلك على تعبك، إنما شيخك من يريحك من تعبك"، كما في لطائف المنن.
وقال شيخنا القطب ابن مشيش: وقد سُئل عن قوله صلى الله عليه وسلم:
"يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا" فقال: دلوهم على الله، ولا تدلوهم على غيره، فإن من دَلَّك على الدنيا فقد غشك، ومن دلَّك على العمل فقد أتعبك، ومن دلَّك على الله فقد نصحك. هـ. فإذا دلك على الله غَيَّبك عن وجود نفسك بشهود ربك، وهي السعادة العظمى، كما تقدم في سورة هود. فمن اتخذ شيخًا ثم لم ينقله من مقام التعب، ولم يُرحله من مقام إلى مقام، فاعلم أنه غير صالح للتربية.
وقوله تعالى: { إِلا تذكرة لمن يخشى }، قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن العارف: قيل: أنزل اللهُ القرآنَ لتذكير سابق الوصال؛ لأن الأرواح لمّا دخلت الأشباح اكتسبت خشية ووحشة وفرقة عن معادنها، فأنزل الله القرآن تأنيسًا؛ لأن المحب يأنس بكتاب حبيبه وكلامه. وقال جعفر الصادق: أنزل اللهُ القرآنَ موعظةً للخائفين، ورحمة للمؤمنين، وأنسًا للمحبين. وايضًا: القرآن يُذَكّر عظمة الله الموجبة خشيته، فهو مُذهب للغفلة. ثم قال: وفي الشهود الحاصل بالتذكير رفعُ المشقة، ووجدان الراحة بالطاعة، لكونه يصير محمولاً، وقد قال:
{ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } [طه: 14]، أي: لشهودي فيها، وفي ذلك قرة عين، وراحةٌ، وأنس، وتشابه حال المصلي بحال موسى، بجامع النجوى، فلذلك ذكر في سياقه. والله أعلم. هـ.
وقوله تعالى: { الرحمنُ على العرش استوى }، تفسيرها هو الذي قصد ابن عطاء الله في الحِكَم بقوله: "يا من استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيبًا في رحمانيته، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه، مَحَقْتَ الآثار بالآثار، ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار. وأنت خبير بأن الرحمانية وصف لازم للذات، والصفة لا تفارق الموصوف، فإذا استوت الرحمانية على العرش وغمرته؛ فقد استوت عليه أسرار الذات وغمرته، وهي أفلاك الأنوار التي أحاطت بالعرش والآثار، ومحت كل شيء، حتى لم يبق إلا الذي ليس كمثله شيء، وليس معه شيء، وهو السميع البصير. وما نسبة حس الآثار بالنسبة إلى أفلاك الأسرار التي استوت عليه إلا كالهباء في الهواء. والله تعالى أعلم وأعظم.
ثمَّ ذكر قصص موسى عليه السلام وتسليته لرسوله صلى الله عليه وسلم