خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَا فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَآ
٧٢
إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ٱلسِّحْرِ وَٱللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ
٧٣
إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ
٧٤
وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ ٱلصَّالِحَاتِ فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَاتُ ٱلْعُلَىٰ
٧٥
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىٰ
٧٦
-طه

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { هذه الحياة الدنيا }: نصب على إسقاط الخافض. اتساعًا، لا نصب على الظرفية؛ لأن الظرف المختص لا ينتصب على الظرفية، على المشهور، و { الذي فطرنا }: عطف على { ما جاءنا }، أو قَسَمٌ حُذف جوابه، أي: وحق الذي فطرنا لا نؤثرك... الخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: حاكيًا عن السحرة، لمَّا خوفهم فرعونُ: { قالوا } غير مكترثين بوعيده: { لن نُؤْثِرَكَ } أي: لن نختارك، باتباعك { على ما جاءنا } من الله تعالى على يد موسى عليه السلام { من البينات } أي: المعجزات الظاهرة؛ لأن ما ظهر من العصا كان مشتملاً على معجزات جمة، كما تقدم. { والذي فَطَرَنَا }: خلقنا وخلق سائر المخلوقات، أي: لن نختارك على ما ظهر لنا من دلائل صحة نبوة موسى، ولا على الذي خلقنا، حتى نتبعك ونترك الحق، وكان ما شاهدوه آية حسية، وهذه آية عقلية. وإيراده بعنوان فاطريته تعالى؛ للإشعار بعِلِّية الحكم، فإن خالقيته تعالى لهم ولفرعون - وهو من جملة مخلوقاته - مما يوجب عدم إيثارهم له عليه سبحانه، أو: وحق الذي فطرنا لا نؤثرك على ما جاءنا، { فاقض ما أنت قاضٍ } أي: فاصنع ما أنت صانعه، أو: فاحكم ما أنت حاكمه. وهو جواب لقوله: { لأقطعن أيديكم... } الخ. { إنما تقضي هذه الحياةَ الدنيا } أي: إنما تصنع ما تهواه، أو تحكم ما تراه في هذه الحياة الدنيا الفانية، ولا رغبة لنا في البقاء فيها، رغبة في سكنى الدار الدائمة، بسبب موتنا على الإيمان.
{ إِنّا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا } التي اقترفنا، من الكفر والمعاصي، ولا يؤاخذنا بها في الآخرة، فلا نغتر بتلك الحياة الفانية، حتى نتأثر بما أوعدتنا به من القطع والصلب، { و } يغفر لنا أيضًا { ما أكرهتنا عليه من السحر } الذي عملناه في معارضة موسى عليه السلام، بإكراهك وحشرك لنا من المدائن القاصية، وخصوه بالذكر، مع اندراجه في خطاياهم؛ إظهارًا لغاية نفرتهم عنه، ورغبة في مغفرته، وفي ذكره الإكراه: نوع اعتذار؛ لاستجلاب المغفرة، وقيل: أرادوا الإكراه على تعلم السحر، لما رُوي أن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين؛ اثنان منهم من القبط، والباقي من بني إسرائيل، وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر، وقيل: إنه أكرههم على المعارضة، حيث رُوي أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائمًا، ففعل، فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر، فإن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه. لكن يأباه تصديهم للمعارضة بالرغبة والنشاط، كما يُعرب عنه قولهم:
{ { إِنَّ لَنَا لأَجْراً... } [الأعرَاف: 113] الخ، وقولهم: { { بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ ٱلْغَالِبُونَ } [الشُّعَرَاء: 44]، إلا أن يُقال: لما رأوا جدَّهُ طمعوا وطلبوا الأجر. { والله خيرٌ وأبقى } أي: وثواب الله خير من إيثار الدنيا الفانية، وأبقى في الدار الباقية، أو: والله في ذاته خير، وجزاؤه أبقى، نعيمًا كان أو عذابًا.
ثم عللوا خيريته وبقاءه فقالوا: { إِنه مَن يأت ربه مجرمًا } بأن يموت على الكفر والمعاصي، { فإِنّ له جهنمَ لا يموتُ فيها } فيستريح وينتهي عذابه، وهذا تحقيق لقوله: { وأبقى }، { ولا يحيا } حياة ينتفع بها، وضمير { إنه }: للشأن، وفيه تنبيه على فخامة مضمون الجملة؛ لأن مناط وضع الضمير موضعه ادعاء شهرته المغنية عن ذكره، مع ما فيه من زيادة التقرير، فإن الضمير لا يفهم منه أول الأمر إلا شأنٌ مبهَمٌ له خطر، فيبقى الذهن مترقبًا لما يعقبه، فيتمكن، عند وروده، فَضل تمكن، كأنه قيل الشأن الخطير هذا.
{ ومَن يأتِهِ مؤمنًا } به تعالى، وما جاء من عنده من المعجزات، التي من جملتها ما شهدناه، حال كونه { قد عمل الصالحات } أي: الأعمال الصالحات، وهي كل ما استقام شرعًا وخلص عقدًا، { فأولئك } أي: من يأت مؤمنًا... الخ. وجمع الإشارة؛ باعتبار معنى "مَن"، كما أن الإفراد في الفعلين السابقين باعتبار لفظها، وما فيه من معنى البُعد؛ للإشعار بعلو درجتهم وبُعد منزلتهم، أي: فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات، { لهم } بسبب إيمانهم وأعمالهم الصالحات { الدرجات العُلى } أي: المنازل الرفيعة، وليس فيه ما يدل على عدم اعتبار الإيمان المجرد عن العمل في استتباع الثواب؛ لأن ما نيط بالإيمان المقرون بالأعمال الصالحة هو الفوز بالدرجات العلى، لا بالثواب مطلقًا.
ثم فسر تلك الدرجات، فقال: { جناتُ عَدْنٍ } أي: إقامة على الخلود، حال كونها { تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها وذلك جزآء من تزكى } الإشارة إلى ما أنتج لهم من الفوز بالدرجات العلى. والبعد في الإشارة؛ للتفخيم، أي: ما تقدم من الفوز بالدرجات العلى هو جزاء من تطهر من دنس الكفر والمعاصي، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة، وهذا تحقيق لكون ثوابه تعالى أبقى. وتقدم ذكر حال المجرم، للمسارعة إلى بيان أشدية عذابه ودوامه، ردًا على ما ادعاه فرعون بقوله: { أينا أشدُ عذابًا وأبقى }، هذا وقد قيل: إن قوله: { إِنه من يأت... } الخ، ابتداء كلام من الله عزّ وجلّ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية تحريض للفقراء أهل النسبة وأرباب الأحوال، على الثبوت في طريق السلوك، وعدم الرجوع عنها، حين يكثر عليهم الإنكار والتهديد، والتخويف بأنواع العذاب، فلا يكترثون بذلك ولا يتضعضعون، وليقولوا كما قال سحرة فرعون: { لن نُؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقضِ ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا... } الآية. وقد جرى هذا على كثير من الصوفية، أُوذوا على النسبة، فمنهم من قُتل، ومنهم من طُوف، ومنهم من أُجلى عن وطنه، إلى غير ذلك مما جرى عليهم، ومع ذلك لم يرجعوا عما هم عليه، حتى وصلوا إلى حضرته تعالى وذاقوا. وما رجع من رجع إلا من الطريق، وأما من وصل فلا يرجع أبدًا، ولو قُطع إربًا إربًا. والله ولي المتقين.
ثمَّ ذكر خروج بني إسرائيل إلى الشام