خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوۤاْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
٧
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ
٨
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ ٱلْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا ٱلْمُسْرفِينَ
٩
لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
١٠
-الأنبياء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحقّ جلّ جلاله في جواب قول الكفرة: { { هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [الأنبيَاء: 3] بعد تقديم الجواب عن قولهم: { فليأتنا بآية }؛ لأنهم قالوه بطريق التعجيز، فلا بد من المسارعة إلى رده، كما تقدم مرارًا في الكتاب العزيز، كقوله: { { إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ... } [هُود: 33] الآية، { مَا نُنَزِّلُ ٱلْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِٱلحَقِّ } [الحجر: 8] الآية. إلى غير ذلك، فقال جلّ جلاله: { وما أرسلنا قَبلك } في الأمم السالفة { إِلا رجالاً }؛ بشرًا من جنس القوم الذين أُرسلوا إليهم؛ لأن مقتضى الحكمة أن يُرسل البشر إلى البشر، والملَك إلى الملَك، حسبما نطق به قوله تعالى: { { قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } [الإسرَاء: 95]، فإن عامّة البشر لا تطيق المفاوضة مع الملك؛ لتوقفها على التناسب بين المفاوض والمستفيض؛ فبعث لكل جنس ما يناسبه؛ للحكمة التي يدور عليها فلك التكوين والتشريع، والذي تقتضيه الحكمة الإلهية أن يبعث الملك إلى خواص البشر المختصين بالنفوس الزكية، المؤيدين بالقوة القدسية، المتعلقين بالعالم الروحاني والجسماني، ليتلَقوا من جانب العالم الروحاني، ويلقوا إلى العالم الجسماني، فبعث رجالاً من البشر يوحي إليهم على أيدي الملائكة أو بلا واسطة.
والمعنى: وما أرسلنا إلى الأمم، قبل إرسالك إلى أمتك، إلا رجالاً مخصوصين من أفراد الجنس، متأهلين للاصطفاء والإرسال، { نوحي إليهم }، بواسطة الملك، ما يُوحى من الشرائع والأحكام، وغيرهما من القصص والأخبار، كما يُوحى إليك من غير فرق بينهما، { فاسألوا أهل الذِّكر إٍن كنتم لا تعلمون } أي: فاسألوا، أيها الجهلة، أهلَ العلم؛ كأهل الكتب الواقفين على أحوال الرسل السالفة - عليهم الصلاة والسلام - لتزول شبهتكم إن كنتم لا علم لكم بذلك. أُمروا بذلك؛ لأن إخبار الجم الغفير يُوجب العلم الضروري، لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين عداوته صلى الله عليه وسلم، ويشاورونهم في أمورهم، فإذا أخبروهم أن الرسل إنما كانوا بشرًا، ولم يكونوا ملائكة، حصل لهم العلم بالحق، وقامت الحجة عليهم.
وتوجيه الخطاب إلى الكفرة في السؤال، بعد توجيهه إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - في الإرسال؛ لأنه الحقيق بالخطاب في أمثال تلك العلوم والحقائق الأنيقة، وأما الوقوفُ عليها باستخبار من الغير فهو من وظائف العوام.
ثم بيَّن كون الرسل - عليهم الصلاة والسلام - أسوة لأفراد الجنس في أحكام البشرية، فقال: { وما جعلناهم جسدًا } أي: أجسادًا، فالإفراد لإرادة الجنس، أو ذوي جسد، { لا يأكلون الطعامَ } أي: وما جعلناهم أجسادًا صمدانيين، أغنياء عن الطعام والشراب، بل مُحتاجين إلى ذلك؛ لتحقيق العبودية التي اقتضت شرفهم. { وما كانوا خالدين }؛ لأن كل من يفتقر إلى الغذاء لا بدّ أن يتحلل بدنه بسرعة، حسبما جرت العادة الإلهية، والمراد بالخلود: المكث المديد، كما هو شأن الملائكة أو الأبدية. وهم معتقدون أنهم كانوا يموتون. والمعنى: بل جعلناهم أجسادًا مفتقرة صائرة إلى الموت عند انقضاء آجالهم، لا ملائكة ولا أجسادًا صمدانية.
{ ثم صَدَقْناهم الوعد } بالنصر وإهلاك أعدائهم، وهو عطف على ما يُفْهَمُ من وحيه تعالى إليهم، كأنه قيل: أوحينا إليهم ما أوحينا، ثم صدقناهم في الوعد، الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي، بإهلاك أعدائهم، { فأنجيناهم ومَنْ نشاء } من المؤمنين وغيرهم، ممن تستدعي الحكمة إبقاءه، كمن سَيُؤمن هو أو بعض فروعه، وهو السر في حماية العرب من عذاب الاستئصال. أو يخص هذا العموم بغير نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم؛ فإن أمته لا تستأصل، وإن بقي فيها من يكفر بالله؛ لعل الله يُخرج من أصلابهم من يُوحد الله تعالى. { وأهلكنا المسرفين } أي: المجاوزين الحد في الكفر والمعاصي.
ولمّا ذكر برهان حَقِّيَّةِ الرسول - عليه الصلاة والسلام - ذكر حقية القرآن المنزل عليه، الذي ذكر في صدر السورة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته، فقال: { لقد أنزلنا إِليكم }، صدّره بالقسم؛ إظهارًا لمزيد الاعتناء بمضمونه، وإيذانًا بكون المخاطبين في أقصى مراتب التنكير، أي: والله لقد أنزلنا إليكم، يا معشر قريش، { كتابًا } عظيم الشأن نيّر البرهان. فالتنكير للتفخيم، أي: كتابًا جليل القدر { فيه ذِكْرُكم } أي: شرفكم وحسن صيتكم، كقوله تعالى:
{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [الزّخرُف: 44]، أو فيه تذكيركم وموعظتكم، أو ما تحتاجون إليه في أمر دينكم ودنياكم، أو ما تطالبون به حسن الذكر والثناء من مكارم الأخلاق، { أفلا تعقلون } فتتدبروا في معانيه حتى تُدركوا حقيته. فالهمزة للإنكار التوبيخي. وفيه حث لهم على التدبر في أمر الكتاب، والتأمل في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر، التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة، والمعطوف: محذوف، أي: أَعَمِيَتْ بصائركم فلا تعقلون؟ والله تعالى أعلم.
الإشارة: ثبوت الخصوصية لا ينافي وصفَ البشرية، فنسبة أهل الخصوصية من البشر كاليواقيت بين الحجر. ولا فرق بين خصوصية النبوة والولاية في الاتصاف بأوصاف البشرية، التي لا تُؤدي إلى نقص في مراتبهم العلية. وتتميز خصوصية النبوة من الولاية بوحي الأحكام، وتتميز خصوصية الولاية من العمومية بالتطهير من الرذائل والتحلي بالفضائل، وبالغيبة عن رؤية الأكوان، بإشراق شمس العرفان، وذلك بالفناء عن الأثر بشهود المؤثِر، ثم بالبقاء بشهود الأثر؛ حكمةً، مع الغيبة عنه، قدرةً، ولا يعرف هذا إلا أهل الذكر الحقيقي، فلا يعرف مقام الأولياء إلا من دخل معهم، ولا يُسأل عنهم إلا أمثالُهم؛
{ { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 43]. فلا يشترط في الولي استغناؤه عن الطعام والشراب؛ إذ لم يكن للأنبياء، فكيف بالأولياء؟ ولا استغناؤه عن النساء، قال تعالى: { { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } [الرّعد: 38]، نعم؛ صاحب الخصوصية مالك لنفسه من غلبة الشهوة عليه، ينزل إلى أرض الحظوظ بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. وتقدم الكلام على قوله تعالى: { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ } في سورة النحل. وبالله التوفيق.
ثمَّ بيِّن ما أجمل عن قوله: { وَأَهْلَكْنَا ٱلْمُسْرفِينَ }