خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ
١٦
لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ
١٧
بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ
١٨
-الأنبياء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { لاعبين }: حال من فاعل خلق، و "إن كنا": شرط حُذف جوابه، أي: إن كنا فاعلين اتخذناه من لّدُنا، وقيل: نافية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { وما خلقنا السماءَ والأرضَ وما بينهما } من المخلوقات التي لا تُحصى أجناسها، ولا تُعد أفرادها، ولا تُحصر أنواعها وآحادها، على هذا النمط البديع والأسلوب الغريب، { لاعبين }؛ خالية عن الحِكم والمصالح، بل لحِكَم بديعة ومصالح عديدة، دينية تَقْضي بسعادة الأبد أو بشقاوته، ودنيوية لا تُعد ولا تُحصى، وهذا كقوله:
{ { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } [ص: 27]، فالمراد من الآية: إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم، وإبداع بني آدم، مؤسس على قواعد الحِكَم البالغة، المستتبعة للغايات الجليلة، وتنبيه على أن ما حكي من العذاب الهائل، والعقاب النازل بأهل القُرى، من مقتضيات تلك الحِكم، ومتفرع عليها حسبما اقتضته أعمالهم. وإنما فعل ذلك؛ عدلاً منه، ومجازاة على أعمالهم، وأن المخاطبين المتقدمين - وهم قريش - على آثارهم؛ لأن لهم ذنوبًا مثل ذنوبهم. وإنما عبَّر عن نفي الحكمة باللعب، حيث قال: { لاعبين }؛ لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخاليِ عن الحكمة، بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد في استحالة صدوره منه سبحانه، وهو اللهو واللعب، بل إنما خلقناهما، وما بينهما؛ لتكون مبدأ الوجود الإنساني وسببًا لمعاشه، ودليلاً يقوده إلى تحصيل معرفتنا، التي هي الغاية القصوى والسعادة العظمى.
ثم قرر انتفاء اللعب واللهو عنه، فقال: { لو أردنا أن نتخذ لهوًا } أي: ما يلهى به ويلعَب، { لاتَّخذناه من لدُنَّا } أي: من أنفسنا؛ لعلمنا بحقائق الأشياء، واستغنائنا عن جلب المصالح ودرء المفاسد. والمعنى: لو أردنا أن نخلق شيئًا، لا لتحصيل مصلحة لكم، ولا لدرء مفسدة عنكم، لفعلنا ذلك في أنفسنا؛ بأن نخلق عوالم ومظاهر عارية عن الحكمة والمصلحة؛ لأنا أحق منكم بالاستغناء عما يجلب المصلحة ويدرأ المفسدة، لكن من عادتنا ربط الأسباب بمسبباتها، وأنا لم نخلق شيئًا عبثًا، بل خلقنا كل نوع من النبات والحيوانات والجمادات؛ لمصلحة ومنفعة، عَلِمها، من عَلِمها وجَهِلَها من جَهِلَها، فحصل من هذا نفي التحسين والتقبيح؛ عقلاً، بهذه الشرطية، وإثباته سمعًا.
أو: { لاتخذناه من لدُنَّا } مما يليق بشأننا من المجردات، لا من الأجسام المرفوعة والأجرام الموضوعة، كعادة الجبابرة؛ مِنْ رفع العروش وتحسينها، وتمهيد الفرش وتزيينها، لأغراض عِراض، لكن يستحيل إرادتنا لذلك؛ لمنافاته للحكمة الإلهية المنزهة عن الأغراض. هـ. من أبي السعود، وأصله للزمخشري. وفيه تكلف.
وسأل طاوسُ ومجاهدُ الحسنَ عن هذه الآية؟ فقال: اللهو: المرأة. وقال ابن عباس: "الولد". ومعنى { لاتخذناه من لدُنَّا }: بحيث لا يطلعون عليه، وما اتخذنا نساءًا وولدًا من أهل الأرض. نزلت في الذين قالوا: اتخذ الله ولدًا. وتكون الآية، حينئذ تتميمًا لِما قبلها، أي: ليس اللعب واللهو من شأننا، إذ لو أردنا أن نتخذ لهوًا لاتخذناه من لدنا. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي: حمل الآية على الزوجة غير مفيد، إلا أن يراد بذلك مجرد الرحمة والشفقة، مما يمكن عقلاً، فيصح دخول النفي الشرعي عليه. انظر ابن عرفة، فقد جوّز، عقلاً، اتخاذه على معنى الرحمة. وكذا ابن عطية في آية الزمر. ومنع ذلك القشيري. قلت: وكأنه لِما يشير إليه قوله تعالى:
{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } [الزُّمَر: 4]، فإن القهر لا يناسب التبني بوجه، وقد يقال: إنه مانع سمعي شرعي، لا عقلي، فلا يخالف ما قاله ابن عرفة ولا ابن عطية. وفيه نظر؛ لأنه يُؤدي إلى تعطيل اسمه القهار ونحوه، وهو محال، والله أعلم. هـ.
قلت: قد حمل النسفي الآية على الولد، فقال: { لو أردنا أن نتخذ لهوًا } أي: ولدًا، أو امرأة، رد على من قال عيسى ابنه، ومريم صاحبته، { لاتخذناه من لدُنَّا } من الولدان أو الحور، { إِن كنا فاعلين } أي: إن كنا ممن يفعل ذلك، ولسنا ممن يفعله لاستحالته في حقنا. هـ. قلت: والذي تكلف الحمل الأول رأى أن حمله على الولد يقتضي جواز الاتخاذ عقلاً؛ وإنما منعه عدم الإرادة. وأجاب ابن عرفة: بأن يحمل الاتخاذ على معنى الرحمة، لا على حقيقة البنوة. قلت: من خاض بحار التوحيد الخاص وحاز مقام الجمع، لا يتوقف في مثل هذا؛ إذ تجليات الحق لا تنحصر، لكن لم يوجد منها، ولم تتعلق إرادته إلا بما هو كمال في حقه تعالى في باب القدرة، وأما باب الحكمة، فهي رداء لمحل النقائص، فافهم، وأصحب أهلَ الجمع حتى يفهموك ما ذكرتُ لك، والسلام.
ثم قال تعالى: { بل نقذفُ بالحق على الباطل } أي: نرمي بالحق، الذي هو الجد، على الباطل، الذي من جملته اللهو، وهو إضراب عن اتخاذ الولد، بل عن إرادته، كأنه قيل: لكنا لا نريده، بل شأننا أن نقذف بالحق على الباطل { فيدْمَغُه }: فيمحقه بالكلية، كما فعلنا بأهل القُرى المحكية وأمثالهم، وقد استعير، لإيراد الحق على الباطل، القذف، الذي هو الرمي الشديد، وللباطل الدمغ، الذي هو تشتيت الدماغ وتزهيق الروح، فكأنَّ الباطل حيوان له دماغ، فإذا تشتت دماغه مات واضمحل، { فإِذا هو زاهق } أي: فإذا الباطل ذاهب بالكلية، متلاش عن أصله. وفي { إذا } الفجائية والجملة الاسمية من الدلالة على كمال السُرعة في الذهاب والبطلان ما لا يخفى.
ثم ردَّ على أهل الباطل فقال: { ولكم الويلُ مما تصفون } أي: وقد استقر لكم الويل والهلاك؛ من أجل ما تصفونه، سبحانه، بما لا يليق بشأنه الجليل، من الولد والزوجة، وغير ذلك مما هو باطل. وهو وعيد لقريش ومن دان دينهم، بأنَّ لهم أيضًا مثل ما لأولئك القرى المتقدمة من الهلاك، إن لم ينزجروا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما نصبت لك الكائنات لتراها كائنات، بل لتراها أنوارًا وتجليات، الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فالغير والسِّوى عند أهل الحق باطل، والباطل لا يثبت مع الحق. قال تعالى: { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق }. قال القشيري: نُدْخِلُ نهارَ التحقيق على ليالي الأوهام، أي: فتمحى، وتبقى شمس الأحدية ساطعة. هـ. وبالله التوفيق.
ثمَّ قرر وحدانيته تعالى في ملكه وملكوته