خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ
٤٥
وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يٰويْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
٤٦
وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ
٤٧
-الأنبياء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

ولمَّا بيَّن الحق تعالى غاية هول ما يستعجله المستعجلون، ونهاية سوء حالهم، عند إتيانه، ونعى عليهم جهلهم بذلك، وإعراضهم عند ذكر ربهم، الذي يكلؤهم من طوارق الليل والنهار، أمَرَ نبيه - عليه الصلاة والسلام - بأن يخبرهم أن ما ينذرهم به، مما يستعجلونه، إنما هو بالوحي، لا من عنده.
قلت: مَن قرأ: { يَسمع } بفتح الياء، فالصُّم: فاعل، والدعاء: مفعول، ومن قرأ بضم التاء، رباعي؛ فالصم: مفعول أول، والدعاء: مفعول ثان. ومن قرأ: { مثقال }؛ بضم اللام، فكان تامة، وبالنصب: خبر كان، أي: وإن كان العمل المدلول عليه بوضع الموازين.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { قل } لهم يا محمد { إِنما أُنذِرُكُم } وأخوفكم من العذاب الذي تستعجلونه، أو بالساعة الموعودة، { بالوحي } القرآني الصادق، الناطق بإتيانه، وفظاعة شأنه، أي: إنما شأني أن أُنذركم بالإخبار به، لا بإتيانه؛ فإنه مخالف للحكمة الإلهية؛ إذ الإيمان برهاني لا عياني، فإذا أَنذرتَهم فلا يسمع إنذارك إلا من سبقت له العناية، دون من سبق له الشقاء، ولذلك قال تعالى: { ولا يسمع الصمُّ الدعاءَ } أي: الإنذار، أو لا تُسمع أنت الصمَّ الدعاءَ { إِذا ما يُنذَرُون }؛ يُخوَّفون، واللام في للعهد، وهو إشارة إلى هؤلاء المنذرين، والأصل: ولا يسمعون إنذارك إذا يُنذرون، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ إشارة إلى تصاممهم وسد أسماعهم إذا أنذروا، وتسجيلاً عليهم بذلك. وفي التعبير بالدعاء، دون الكلام في الإنذار، إشارة إلى تناهي صممهم في حال الإنذار، فإن الدعاء من شأنه أن يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئة دالة عليه، فإذا لم يسمعوا، مع هذه الحالة، يكون صممهم في غايةٍ لا غاية ورائها.
{ ولَئِنْ مسّتْهم نفحةٌ } أي: دفعة يسيرة { من عذاب ربك } أي: كائنة منه، { ليقولنَّ يا ويلنا إِنا كنا ظالمين }، وهذا بيان لسرعة تأثيرهم من مجيء نفس العذاب، إثر بيان عدم تأثرهم من مجرد الإخبار به، لانهماكهم في الغفلة، أي: والله لئن أصابهم أدنى شيء من هذا العذاب الذي يُنذرون به، لذلوا، ودَعوا بالويل على أنفسهم، وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصامموا وأعرضوا. وقد بُولغ في الكلام، حيث عبَّر بالمس والنفح؛ لأن النفح يدل على القلة، فأصل النفح: هبوب رائحة الشيء، يُقال: نفحه بعطية، إذا أعطاه شيئًا يسيرًا، مع أن بناءها للمرة مؤكد لقلتها.
ثم بيَّن ما يقع عند إتيان ما أنذروه، فقال: { ونضع الموازينَ القِسْطَ } أي: نقيم الموازين العادلة التي تُوزن بها الأعمال، وهو جمع ميزان، وهو ما يوزن به الشيء ليُعرف كمِّيته. وعن الحسن: "هو ميزان له كفتان ولسان"، وإنما جمع الموازين؛ لتعظيم شأنها، والوزن لصحائف الأعمال في قول، وقيل: وضع الميزان كناية عن تحقيق العدل، والجزاء على حسب الأعمال. وإفراد القسط؛ لأنه مصدر وصف به؛ للمبالغة، كأنها في نفسها قسط، أو على حذف مضاف، أي: ذوات القسط. وقوله: { ليوم القيامة } أي: لأهل يوم القيامة، أي: لأجلهم، أو في يوم القيامة، { فلا تُظلم نفسٌ شيئًا } من الظلم، ولا تنقص حقًا من حقوقها، بل يُؤتى كل ذي حق حقه، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشر.
{ وإِن كان مثقالَ حبةٍ من خَرْدَلٍ } أي: وإن كان الشيء أو العمل مثقال حبة من خردل، { أتينا بها }: أحضرناها وجازينا عليها، وأنث ضمير المثقال؛ لإضافته إلى حبة، { وكفى بنا حاسبين }، إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا، أو عالمين حافظين، لأن من حسب شيئًا علمه وحفظه، قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -.
الإشارة: كان صلى الله عليه وسلم يُنذر الناس ويذكّرهم بالوحي التنزيلي، وبقي خلفاؤه يذكرون بالوحي الإلهامي، موافقُا للتنزيلي، ولا يسمع وعظهم ويحضر مجالسهم إلا من سبقت له سابقة العناية، وأما من انتكبت عنه العناية تنكب مجالسهم، وتصامم عن وعظهم وتذكيرهم، ولا يسمع الصمُّ الدعاء إذا ما ينذرون، ولا يندمون إلا حين تنزل بهم الأهوال، ولا ينفع الندم وقد جف القلم، وذلك حين تُوضع موازين الأعمال، فتثقل أعمال المخلصين، وتخف أعمال المخلَّطين، ولا تُوضع الموازين إلا لأهل النفوس الموجودة، وأما من غاب عن نفسه في شهود محبوبه، لفنائه في شهوده، وانطوائه في وجوده، فلا ينصب له ميزان؛ إذ لا يشهد لنفسه حسًا ولا فعلاً ولا تركًا، وإنما الفعل كله للواحد القهار. ويكون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه. آمين.
ثم شرع في تفصيل ما أجمل في قوله:
{ { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ } ، [الأنبياء: 7] إلى قوله: { وَأَهْلَكْنَا ٱلْمُسْرفِينَ } [الأنبيَاء:9].