خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ
٥١
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيۤ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ
٥٢
قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ
٥٣
قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٥٤
قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا بِٱلْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ ٱللاَّعِبِينَ
٥٥
قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ٱلَّذِي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ
٥٦
-الأنبياء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { إذ قال }: ظرف لآتينا، أو لرُشْدَه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { ولقد آتينا إِبراهيم رُشدَه } أي: الرشد اللائق به وبأمثاله من كُبراء الرسل، وهو الاهتداء الكامل، المستند إلى الهداية الخاصة الحاصلة بالوحي، مع الاقتدار على إصلاح الأمة وإرشادها بسياسة النبوة والوحي الإلهي، { من قبلُ } أي: من قبل إيتاء موسى وهارون التوراة، وتقديم ذكرهما، لما بين التوراة والقرآن من الشبه التام. وقيل: من قبل إنزال القرآن، أو من قبل استنبائه، أو من قبل بلوغه، { وكُنا به عَالمين } أي: بأنه أهل لما آتيناه، أو عالمين برُشده، وما خصصناه به من الهداية الخاصة. { إذ قال لأبيه وقومه } أي: آتيناه ذلك حين قال لأبيه، أو اذكر وقت قوله لهم: { ما هذه التماثيلُ } أي: الأصنام المصورة على صورة السباع والطيور والإنسان، وفيه تجاهل بهم؛ تحقيرًا لها، مع علمه بتعظيمهم لها؛ توبيخًا لهم على إجلالها مع كونها خشبًا وأحجارًا لا تضر ولا تنفع، { التي أنتم لها عاكفون } أي: لأجل عبادتها مقيمون، فلما عجزوا عن الدليل { قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين } فقلدناهم، فأبطله عليه السلام، على طريقة التوكيد بالقسم، فقال: { لقد كنتم أنتم وآباؤكم } الذين سنُّوا لكم هذه السُّنَّة الباطلة، { في ضلال مبين }: ظاهر بيِّن، بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء، أي: والله لقد كنتم مستقرين في ضلال عظيم ظاهر؛ لعدم استناده إلى دليل، فالتقليد إنما يجوز فيما يحتمل الحَقِّية في الجملة، لا فيما اتضح بطلانه، سيما في أمر التوحيد.
{ قالوا أجئتنا بالحق } أي: بالجد، { أم أنت من اللاعبين }، فتقول ما تقول على الملاعبة والمزاح. والمعنى: أجادٌ أنتَ، أم لاعب فيما تقول؟ قالوا ذلك؛ استعظامًا منهم لإنكاره، واستبعادًا لكون ما هم عليه ضلال، وتعجيبًا من تضليله إياهم.
ثم أضرب عنهم؛ مخبرًا بأنه جاد فيما قال، غير لاعب، بإقامة البرهان على بطلان ما ادعوه فقال: { بل ربُّكم ربُّ السماواتِ والأرض الذي فطرهنَّ }، لا التماثيل التي صورتم. وقيل: هو إضراب عما بنوا عليه مقالتهم؛ من اعتقاد كونها أربابًا لهم، كما يُفصح عنه قولهم:
{ { نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } [الشُّعَرَاء: 71]، كأنه قال: ليس الأمر كذلك، بل ربكم رب السماوات والأرض الذي خلقهن وأنشأهن، فالضمير للسماوات والأرض، وصفَه تعالى بإيجادهن، إثر وصفه تعالى بربوبيته لهن؛ تحقيقًا للحق، وتنبيهًا على أن ما لا يكون كذلك بمعزل من الربوبية، أي: أنشأهن بما فيهن من المخلوقات، التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدونه، من غير مثالٍ يحتَذِيه، ولا قانون ينتحيه. وقيل: الضمير للتماثيل، وهو أدخل في تضليلهم، وأظهر في إلزام الحجة عليهم؛ لِمَا فيه من التصريح المُغني عن التأمل في كون ما يعبدونه من المخلوقات، والأول أقرب.
ثم قال عليه السلام: { وأنا على ذلكم } الذي ذكرتُ: من كون ربكم رَبَّ السماوات والأرض، دون ما عداه، كائنًا ما كان، { من الشاهدين } أي: العالمين به على سبيل الحقيقة، المبرهنين عليه، فإن الشاهد على الشيء: مَنْ تحققه وبرهن عليه، كأنه قال: وأنا أعلم ذلك، وأتحققه، وأُبرهن عليه، والله تعالى أعلم.
الإشارة: زخارف الدنيا وبهجتها، من تشييد بناء، وتزويق سقف وحيطان، وإنشاء غروس وبساتين، وجمع أموال، وتربية جاه، كلها تماثيل لا حقيقة لها، فانية لا دوام لها. فمن عكف عليها، وأولع بخدمتها وجمعها وتحصيلها، كان عابدًا لها، فينبغي لذي الرشد والعقل الوافر، الذي تحرر منها، أن يُنكر عليهم، ويقول لهم: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، فإن قالوا: وجدنا أباءنا يفعلون هذا، وعلماءنا مثلنا، فليقل لهم: لقد كنتم وآباؤكم وعلماؤكم في ضلال مبين، عما كان عليه الأنبياء والأولياء والسلف الصالح. فإن قالوا: أجادٌّ أنت أم لا؟ فليقل: بل ربكم الذي ينبغي أن يُفرد بالمحبة والخدمة، وهو رب السماوات والأرض، لا ما أنتم عليه من محبة الدنيا وبهجتها، وأنا على ذلكم من الشاهدين.
ثمَّ ذكر كسره الاصنام وما ترتب عليه