خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ
١٠١
فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
١٠٢
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ
١٠٣
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ
١٠٤
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ
١٠٥
-المؤمنون

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: { فإذا نُفخ في الصور } لقيام الساعة، وهي نفخة البعث والنشور، وقيل: فإذا نفخ في الأجسادِ أرواحها، على أن الصور جمع صورة، ويؤيده القراءة بفتح الواو مع الضم، وبه مع كسر الصاد. { فلا أنساب بينهم يومئذٍ } تنفعهم، لزوال التراحم والتعاطف بينهم؛ من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة، بحيث يفر المرءُ من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. قال ابن عباس: (لا يفتخرون بالأنساب والأحساب في الآخرة، كما كانوا يفتخرون في الدنيا) { ولا يتساءلون } لا يسأل بعضهم بعضاً؛ لاشتغال كل منهم بنفسه، ولا يناقضه قوله تعالى: { { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [الصافات: 27]؛ لأن هذا - أي: سكوتهم - عند ابتداء النفخة الثانية، وذلك بعدها؛ لأن يوم القيامة ألوان، تارة يبهتون ولا يتساءلون،وتارة يفيقون، فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
وقال ابن عباس: إنما عنى النفخة الأولى، حين يصعق الناس، (فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون)،
{ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [الزمر: 68]، { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ }. نقله الثعلبي.
{ فمن ثَقُلَتْ موازينهُ } أي: موزونات حسناته من العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة، { فأولئك هم المفلحون }؛ الفائزون بكل مرغوب، الناجون من كل مرهوب، { ومن خفت موازينهُ } أي: ومن لم يكن له من العقائد والأعمال ما يوزن - وهم الكفار - لقوله:
{ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً } [الكهف: 105]، وتقدم ما فيه. { فأولئك الذين خسروا أنفسهم }: ضيعوها بتضييع زمان استكمالها، وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها، { في جهنم خالدون }، وهو خبر ثان لأولئك، أو بدل من الصلة، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (يؤخذ بيد العبدِ أو الأمة يوم القيامة، فينصب على رؤوس الأولين والآخرين، ثم ينادي مناد: هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه، فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على ابنها، أو على زوجها، أو على أبيها، أو على أخيها، ثم قرأ ابن مسعود: { فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون }، ثم يقول الرب تعالى: آت هؤلاء حقوقهم، فيقول ربِّ، فنيت الدنيا؛ فمن أين آتيهم؟ فيقول للملائكة: خذوا من حسناته فأعطوا كل إنسان بقدر طلْبته...) إلخ الحديث، انظر النسفي.
قال تعالى: { تلفح وجوهَهُم النار }؛ تحرقها، واللفح كالنفخ، إلاَّ أنه أشد تأثيراً منه، وتخصيص الوجوه بذلك؛ لأنها أشرف الأعضاء. { وهم فيها كالحون }: عابسون من شدة الإحراق، والكلوح: تقلص الشفتين من الإنسان، قال النبي صلى الله عليه وسلم في كالحون:
"تَشْوِيهِ النَّارُ فَتَقلَّص شَفَتَهُ العُلْيَا، حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأَسِهِ، وَتَسْتَرخِي السُّفْلَى حَتَّى تَبْلُغَ سُرَّته" . فيقال لهم - تعنيفاً وتذكيراً لما به استحقوا ما ابتلوا به: { ألم تكن آياتي } أي: القرآن { تُتْلَى عليكم } في الدنيا { فكنتم بها تُكذِّبون } حينئذٍ، فذوقوا وبال ما كنتم به تكذبون. نسأل الله التوفيق والهداية.
الإشارة: قال الترمذي الحكيم: الأنساب كلها منقطعة إلا من كانت نسبته صحيحة في عبودية ربه، فإن تلك نسبة لا تنقطع أبداً، وتلك النسبة المفتخر بها، لا نسبة الأجناس من الآباء والأمهات والأولاد. هـ. وقال الورتجبي: عند المعاينة والمشاهدة بوجوده ونشر جوده، نسبهم هناك نسب المعرفة والمحبة الأزلية، واصطفائيته القدسية، لا يفتخرون بشيء دونه، من العرش إلى الثرى، ولا يتساءلون؛ شغلاً بما هم فيه. هـ.
ومعنى كلام الشيخين: أن العبد، إذا صحت نسبته إلى مولاه، وانقطع بكليته إليه، ورفض كل ما سواه، اتصلت نسبته، ودامت محبته وأنسه، ومن تعلق بغيره، وتودد إلى سواه، انقطع ذلك وانفصل، ومن النسب التي تتصل وتدوم، النسبة إلى أولياء الله، والتحبب إليهم وخدمتهم، وهي في الحقيقة من نسبة الله تعالى؛ لأنها سبب معرفته والتحقق بعبوديته، فهي عينها، فمن انتسب إليهم فقد انتسب إلى الله، ومن أحبهم فإنما أحب الله، فمحبتهم، والاجتماع معهم يؤدي إلى محبة الله ورضوانه، وهم الذين يكونون عن يمين الرحمن، يغشى نورُهُم الناس يوم القيامة، يغبطهم النبيون والشهداء؛ لمنزلتهم عند الله. قال عليه الصلاة والسلام: لما سئل عنهم:
"هم رجال من قبائل شتى، يجتمعون على ذكر الله ومحبته" أو كما قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث. والله تعالى أعلم.
ثمَّ ذكر جواب أهل النار