خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٤٥
إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ
٤٦
فَقَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ
٤٧
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ ٱلْمُهْلَكِينَ
٤٨
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
٤٩
-المؤمنون

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: "هارون": بدل من "أخاه".
يقول الحق جل جلاله: { ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا } التسع؛ من اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، ونقص الثمرات، والطاعون. ولا مساغ لعدّ فلق البحر منها؛ إذ المراد الآيات التي كذبُوها واستكبروا عنها، بدليل ما بعدها. { وسلطانٍ مبينٍ }؛ وحجة واضحة مُلزِمَة للخصم الإقرار بما دُعي إليه، وهي إمّا العصا، وإفرادها بالذكر مع اندراجها في الآيات؛ لأنها أبهر آياته عليه السلام، وقد تضمنت معجزات شتى؛ من انقلابها ثعباناً، وتلقفها ما أفكته السحرة، كما تقدم. وأما التعرض لانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر؛ بضربها، وحراستها، وصيرورتها شمعة، وشجرة خضراء مثمرة، ودلْواً ورشاء، وغير ذلك مما ظهر منها في غير مشهد فرعون وقومه، فغير ملائم لمقتضى المقام، وإمّا ما أتى به من الحجج الباهرة، فيشمل ما تقدم وغيره.
{ إلى فرعون وملَئه } أي: أشراف قومه، خصهم بالذكر؛ ليرتب عليه ما بعده من قوله: { فاستكبروا } عن الإنقياد وتمردوا. تكبراً وترفعاً، { وكانوا قوماً عالين }: متكبرين، متمردين، { فقالوا }، فيما بينهم، على طريق المناصحة: { أنؤمن لبشَرَيْنِ مثلنا }، "مثل" و "غير" يوصف بها الإثنان والجمع والمذكر والمؤنث، والبشر يطلق على الواحد، كقوله:
{ بَشَراً سَوِياًّ } [مريم: 17]، وعلى الجمع، كقوله: { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً } [مريم: 26]، وأراد به هنا الواحد، فثناه، أي: كيف نؤمن لبشرين مثلنا في العجز والافتقار، { وقومهما لنا عابدون } أي: خادمون منقادون لنا كالعبيد، وكأنهم قصدوا بذلك التعريض بهما - عليهما السلام -, وحط رتبتهما العلية عن منصب الرسالة من وجه آخر غير البشرية، بناء على زعمهم الفاسد، من قياس الرئاسة الدينية على الرئاسات الدنيوية، الدائرة على التقدم في نيل الحظوظ الدنيوية، من المال والجاه، كدأب قريش، حيث قالوا: { { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [الأحقاف: 11]. { { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31]. وعلى جهلهم بأن مناط الاصطفاء للرسالة هو السبق في حيازة النعوت العلية، وإحراز الكمالات السنية، جِبِلَّةً او اكتساباً، { فكذبوهما } أي: فتمادوا على تكذيبهما، وأصروا، واستكبروا استكباراً، { فكانوا من المهلَكِين } بالغرق في بحر القلزم.
{ ولقد آتينا } بعد إهلاكهم، وإنجاء بني إسرائيل من مِلكِهم واسترقاقهم، { موسى الكتابَ }: التوراة، ولَمَّا نزلت لإرشاد قومه جُعلوا كأنهم أوتوها، فقيل: { لعلهم يهتدون } إلى الحق بالعمل بما من الشرائع والأحكام، وقيل: على حذف مضاف، أي: آتينا قوم موسى، كقوله:
{ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ } [يونس: 83]، أي: من آل فرعون وملئهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل من طُرد وأُبعد عن ساحة رحمة الله تعالى والوصول إليه، فإنما سببه التكبر والعلو، وكل من قرب ووصل إلى الله فإنما سببه التواضع والحنو، ولذلك ورد:
"لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كان في قَلْبِه مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ" . وحقيقة الكِبرِ: بَطَرُ الحَقِّ وغَمْطُ النَّاسِ، أي: إنكار الحق واحتقار الناس، وفي مدح التواضع والخمول ما لا يخفى. فمن تواضع، دون قدره، رَفَعَهُ الله فوق قدره، فالتواضع مصيدة الشرف، به يصطاد وينال، ومن أوصاف أهل الجنة: "كل ضعيف مستضعف، لو أقسم على الله لأبره في قسمه"، إلى غير ذلك من الأخبار.
وكل من أنكر على أهل الخصوصية فسببه إما الحسد، أو الجهل بأن الخصوصية لا تنافي أوصاف البشرية، أو قياس الرئاسة الباطنية الدينية على الرئاسة الدنيوية، فأسقط من لا رئاسة له في الظاهر ولا جاه، أو لعدم ظهور الكرامة، وهي غير مطلوبة عند المحققين. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر عيسى عليه السلام