خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَـٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ
٦٣
حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِٱلْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ
٦٤
لاَ تَجْأَرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ
٦٥
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ
٦٦
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ
٦٧
-المؤمنون

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: "بل" إضراب عما قبله من أوصاف المؤمنين، وانتقال إلى أضدادهم من الكافرين، والضمير للكفرة، و "حتى": ابتدائية مختصة بالدخول على الجُمل.
يقول الحق جل جلاله: { بل قلوبُهم } أي: الكفرة المستدرج بهم، وهم لا يشعرون، { في غَمْرَةٍ }؛ في غفلة غامرة لها، مما عليه هؤلاء الموصوفون بما تقدم من الخشية وما بعده، أو مما بيَّن في القرآن من أن لديه كتاباً ينطق بالحق، ويُظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد، فيُفضحون بها، كما ينبئ عنه ما بعده من قوله { قد كانت آياتي تتلى عليكم.. } . { ولهم أعمال من دون ذلك } أي: ولهم أعمال خبيثة كثيرة، متجاوزة لذلك الذي وصف به المؤمنون، من الأعمال الصالحات، وهي فنون كفرهم ومعاصيهم، { هم لها عاملون } ، وعليها مقيمون، مستمرون عليها، حتى يأخذهم الله بالعذاب، كما قال: { حتى إذا أخذنا مُتْرَفِيهم } أي: منعميهم { بالعذاب } أي: عذاب الدنيا، وهو القحط سبع سنين، حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
"اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، واجعلها عَلَيْهمَ سِنِينَ كَسِنيِّ يُوسُفَ" ، فقحطوا حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام. أو: القتل يوم بدر. والحق: إنه العذاب الأخروي؛ إذ هو الذي يُفاجأون عنده بالجؤار، فيجابون بالرد والإقناط عن النصر، وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار، حسبما ينبئ عنه قوله تعالى: { { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِٱلْعَذَابِ فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } [المؤمنون: 76] فإنَّ المراد به ما جرى عليهم يوم بدر كما يأتي. وأما الجوع فإن أبا سفيان، وإن تضرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عليه بالإقناط، بل دعا لهم فكشف عنهم. وقوله تعالى: { إذا هم يجأرون } أي: يصرخون؛ استغاثة، والجؤار: الصراخ باستغاثة. فيقال لهم: { لا تجأروا اليوم } ؛ فإن الجؤار غيرُ نافع لكم، { إنكم منا لا تُنصرون } أي: لا يلحقكم من جهتنا نصرة تمنعكم مما دهمكم.
{ وقد كانت آياتي } القرآنية { تُتلى عليكم } في الدنيا، { فكنتم على أعقابكم تَنكصُونَ } أي: ترجعون القهقرى، وتعرضون عن سماعها أشد الإعراض, فضلاً عن تصديقها والعمل بها, والنكوص: الرجوع القهقرى, وهي أقبح المشية؛ لأنه لا يرى ما وراءه، { مستكبرين به }، الظاهر أن الضمير للقرآن؛ لتقدم ذكر آياته، والباء بمعنى "عن" أي: متكبرين عن سماعه والإذعان له، أو سببية، أي: فكنتم بسبب سماعه مستكبرين عن قبوله، وعمن جاء به، أو ضَمَّن مستكبرين معنى مُكذبين، وقيل: يعود إلى البيت الحرام، أو الحرم، وأضمر ولم يذكر؛ لأنه من السياق. والمعنى: أنهم يستكبرون بسبب المسجد الحرام؛ لأنهم أهله وأهل ولايته، وكانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد؛ لأنا أهل الحرم، وقيل: تتعلق بالباء بقوله: { سامراً } أي: تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه، وكانوا يجتمعون حول البيت يسمرون، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن والطعن فيه، وفي النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء به، و "سامراً": مفرد بمعنى الجمع، وقرئ سُمَّاراً، { تهجرون }، إما من الهَجر بالفتح، بمعنى الهذيان، أي: تهذون في شأن القرآن كما يهذو الحالم أو السكران. أو من الترك، أي: تتركونه وتفرون منه، أو تهجرون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أو من "الهجر" بالضم، وهو الفحش، ويؤيده قراءة من قرأ: "تُهجِرون"، من أهجر في منطقة: إذا أفحش. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من كان قلبه في غمرة حظوظه وهواه، عاكفاً على جمع دنياه، لا يطمع في دخول حضرة مولاه، ولو صلى وصام ألف سنة. قال القشيري: لا يَصلُحُ لهذا الشأنِ إلا من كان فارغاً من الأعمال كلها، لا شغلَ له في شأن الدنيا والآخرة، فأمَّا من شُغل بدنياه، وعلى قلبه حديثٌ من عقباه، فليس له نصيبٌ من حديث مولاه. هـ. وفي الحديث:
"نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهمَا كَثِيرٌ مِنَ الناس: الِّصحَّةُ والفَرَاغُ" .
ثمَّ أمر بالتدبر والنظر لعلة يقع التيقظ.