خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
٧٥
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِٱلْعَذَابِ فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ
٧٦
حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ
٧٧
-المؤمنون

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: { ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضُرّ } ، كقحط وجدب، { لَلَجُّوا }: لتمادَوا { في طغيانهم }: إفراطهم في الكفر والعتو والإستكبار وعداوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنين، { يعمهون }: يترددون عامهين عن الهدى. قال ابن عباس: لما أَسْلَمَ ثُمَامَةُ بن أَثالٍ الحنفي، ورجع إلى اليَمَامَةِ، مَنَعَ المِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّة، وَأَخَذَهُمُ الله تعالى بالسنين حَتَّى أَكلَّوا العِلْهِزَ، جَاءَ أبو سُفْيانَ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أَنْشدُك الله والرَّحِمَ، ألسْتَ تزعمُ أَنّك بُعثْتَ رَحْمَة للعالَمين؟ قال: بَلَى، قال: قتلتَ الآباءَ بالسَّيف، والأبنَاءَ بالجوعِ، فنزلت. قال ابن جُزي: وفيه نظر؛ فإن الآية مكية باتفاق، وإنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قريش بعد الهجرة، حسبما ورد في الحديث. هـ.
قلت: والتحقيق: أن القحط نزل بهم مرتين، أحدهما قبل الهجرة، حين دعا عليهم - صلى الله عليه وسلم - بقوله:
"اللهم أَعنِّي عليهم بسبع كسبع يوسف" ، فأخذتهم سَنَةٌ حصدت كل شيء، حتى أكلوا الميتة والعظام، وكانوا يرون كهيئة الدخان من الجوع، فجاء أبو سفيان فقال: يا محمد، جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادعُ الله يغيثنا، فدعا لهم.. الحديث. وفيه نزل الله تعالى: { { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } [الدخان: 10] الآية، وقوله هنا: { ولو رحمناهم وكشفنا... } الآية. ومرة أخرى بالمدينة؛ حين استغاثوا به عليه السلام وهو يخطب، ولعله هو الذي ذكره ابن عباس في إسلام ثمامة، ولعل قوله: "فنزلت الآية" سهو؛ لأنها نزلت قبل الهجرة، إلاّ أن تكون الآية مدنية في السورة المكية، وقول ابن جزي: "دعا عليهم بعد الهجرة"، التحقيق، أنه دعا عليهم قبلُ وبعدُ. والله أعلم.
والمعنى: لو رحمناهم، وكشفنا ما بهم من القحط والهزال؛ برحمتنا إياهم، ووجدوا الخصب، لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والاستكبار، ولذهب عنهم هذا الخلق والتعلق بك، وهذا كقوله تعالى في الدخان:
{ إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } [الدخان: 15]، قيل: المراد بالضر: العذاب الأخروي، فيكون كقوله: { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [الأنعام: 28].
{ ولقد أخذناهم بالعذاب }، وهو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر، وهو قوله - تعالى - في الدخان
{ يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ } [الدخان: 16]. { فما استكانُوا لربهم } بذلك، أي: لم يخضعوا ولم يتذللوا. و "استكانوا": افتعل من السكون، والألف زائدة، أو استفعل من الكون، أي: انتقل من كون إلى كون، كاستحال، إذا انتقل من حالٍ إلى حال؛ لأن الخاضع ينتقل من كون إلى كون { وما يتضرعون } أي: وليس من حالهم التضرع إليه تعالى، وعبَّر بالمضارع، ليدل على الاستمرار، أي: ليس شأنهم التضرع في هذه الحالة وغيرها، أو: فما استكانوا فيما مضى، وما يتضرعون فيما ينزل بهم في المستقبل، والمعنى: تالله لقد أخذناهم بالعذاب، وقتلناهم بالسيوف، وما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم، فما وُجدت، بعد ذلك، منهم استكانة ولا تضرع.
{ حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذابٍ شديد }، وهو عذاب الآخرة، { إذا هم فيه مبلسون }: متحيرون آيسون من كل خير، وهذا هو الصواب من حمل العذاب على عذاب الآخرة، بدليل وصفه بالشدة والإياس. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أهل الغفلة والبُعد لا يرجعون إلى الله في السراء ولا في الضراء؛ لانهماكهم في الغفلة والقساوة، وأهل اليقظة يرجعون إلى الله في السراء والضراء، في السراء بالحمد والشكر، وفي الضراء بالصبر والرضا والتسليم، مع التضرع والابتهال؛ عبوديةً، والمقتصدون يرجعون إليه - تعالى - في الضراء، ويغفلون عن الشكر في السراء، والأول ظالم لنفسه، والثاني سابق، والثالث مقتصد. وبالله التوفيق.
ثم ذكر دلائل قدرته تعالى - وفي ضمنه استدعاؤهم إلى الرجوع لله تعالى: