خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَٱلزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ
٣
-النور

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: من شأن { الزاني } الخبيث: أنه لا يرغب إلا في زانية خبيثة من شكله، أو في مشركة، والخبيثة المسافحة لا يرغب فيها إلا من هو من شكلها، من الفسقة أو المشركين، وهذا حُكْمٌ جار على الغالب المعتاد، جيء به؛ لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني، بعد زجرهم عن الزنا بهن؛ إذ الزنا عديل الشرك في القبح، كما أن الإيمان قرين العفاف والتحصن، وهو نظير قوله: { ٱلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } [النور: 26].
روي أن المهاجرين لَمَّا قدموا المدينة، وكان فيهم من ليس له مال ولا أهل، وبالمدينة نساء بغايا مُسافِحَات، يُكرين أنفسهن وهُنَّ أخْصَبُ أهل المدينة، رغب بعضُ الفقراء في نكاحهن؛ لحسنهن، ولينفقوا عليهم من كَسْبِهِنّ، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت، فنفرهم الله تعالى عنه، وبيَّن أنه من أفعال الزناة وخصائص المشركين، فلا تحوموا حوله؛ لئلا تنتظموا في سلكهم وتَتَّسِمُوا بسمتهم.
قيل: كان نكاح الزانية محرماً في أول الإسلام، ثم نسخ بقوله:
{ وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ } [النور: 32]. وقيل: المراد بالنكاح: الوطء، أي: الزاني لا يزني إلا بزانية مثله، وهو بعيد، أو باطل.
وسُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمن زنا بامرأة ثم تزوجها. فقال:
"أَوَّلُهُ سِفَاحٌ، وآخره نكاح والحرام لا يُحرم الحلال" .
ومعنى الجملة الأولى: وصفُ الزاني بكونه غير راغب في العفائف، ولكن في الفواجر. ومعنى الثانية: وصف الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء، ولكن الزناة، وهما معنيان مختلفان. وقدّم الزاني هنا، بخلاف ما تقدم في الجلد؛ لأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت تلك الجناية، كما تقدم، وأما هنا فمسوقة لذكر النكاح، والرجل اصل فيه.
ثم ذكر الحُكْم فقال: { وحُرِّم ذلك على المؤمنين } أي: نكاح الزواني بقصد التكسب، أو: للجمال؛ لما في ذلك من التشبه بالفساق وحضور مواضع التهمة، والتعرض لسوء المقالة والغيبة والطعن في النسب، وغير ذلك من المفاسد التي لا تكاد تليق بأحد من الأداني والأراذل، فكيف بالمؤمنين والأفاضل؟، ولذلك عبّر عن التنزيه بالتحريم، مبالغة في الزجر، وقيل: النفي بمعنى النهي، وقرئ به. والتحريم: إما على حقيقته، ثم نسخ بقوله:
{ وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ } [النور: 32] إلخ، أو: مخصوص بسبب النزول. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الصحبة لها تأثير في الأصل والفرع، فيحصل الشرف أو السقوط بصحبة أهل الشرف أو الأراذل، وفي ذلك يقول القائل:

عَلَيْكَ بأَرْبَابِ الصُّدُورِ، فَمَنْ غَدَامُضَافاً لأَرْبَابِ الصُّدُورِ تَصَدَّرَا
وَإِيَّاكَ أَنْ تَرْضَى بِصُحْبَةِ سَاقِطٍ فَتَنحط قَدْراً مِنْ عُلاَكَ وَتَحْقُرَا

فالمرء على دين خليله، ومن تحقق بحالة لا يخلو حاضروه منها، والحكم للغالب، فإن كان النورُ قوياً غلب الظلمةَ، وإن كانت الظلمة قوية غلبت النور، وصيرته ظلمة، ولذلك نهى الله تعالى عن نكاح الزواني، فإنه وإن كان نور الزوج غالباً - إذا كان ذا نور - فإن العِرْقَ نَزَّاعٌ، فيسرى ذلك في الفروع، فلا تكاد تجد أولاد أهل الزنا إلا زناة، ولا أولاد أهل العفة إلا أعِفَّاء، { وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً } [الأعراف:58].
وفي الحديث:
"إياكم وخَضْرَاءَ الدِّمَنِ، قيل: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء" . قال ابن السكيت: شبهها بالبقلة الخضراء في دِمْنَةِ أرض خبيثة؛ لأن الأصل الخبيث يحن إلى أصله، فتجيء أولادها لأصلها في الغالب. فيجيب على اللبيب - إن ساعفته الأقدار - أن يختار لزراعته الأرض الطيبة، وهي الأصل الطيب، لتكون الفروع طيبة. وفي الحديث: "تخيَّرُوا لنطفكم ولا تضعوها إلاّ في الأَكْفَاءِ" هـ. وبالله التوفيق.
ثمَّ ذكر حدَّ القذف، فقال: { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ... }