خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٩٢
نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ
١٩٣
عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ
١٩٤
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ
١٩٥
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ ٱلأَوَّلِينَ
١٩٦
أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ
١٩٧
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ ٱلأَعْجَمِينَ
١٩٨
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ
١٩٩
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ
٢٠٠
لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ
٢٠١
فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
٢٠٢
فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ
٢٠٣
-الشعراء

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: "آية" خبر "كان"، و"أَنْ يعلمه": اسمها، ومن قرأ "آية"؛ بالرفع؛ فآية اسمها، و { أن... } إلخ: خبر أو "كان": تامة، و"آية": فاعل، و "أن يعلمه": بدل منه.
يقول الحق جل جلاله: { وإنه } أي: القرآن المشتمل على القصص المتقدمة، وكأنه تعالى عاد إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر، ليتناسب المفتتح والمختتم، أي: وإن القرآن الكريم { لتنزيلُ ربِّ العالمين } أي: منزل من جهته. ووصفه تعالى بربوبية العالمين؛ للإيذان بأن تنزيله من أحكام ربوبيته للعالمين ورأفته للكل.
{ نَزَلَ به } أي: أنزله { الروحُ الأمين } أي: جبريل عليه السلام، لأنه أمين على الوحي الذي فيه روح القلوب، ومن قرأ بالتشديد: فالفاعل هو الله، والروح: مفعول به, أي: جعل الله تعالى الروح الأمين نازلاً به. والباء؛ للتعدية, نزل به { على قلبك }, أي: حفظك وفهمك إياه، وأثبته في قلبك إثبات ما لا يُنْسَى، كقوله:
{ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } [الأعلى:6].
{ لتكونَ من المُنْذرِين } بما فيه من العقوبات الهائلة والمواعظ الزاجرة، { بلسان عربي }؛ بلغة قريش وجُرْهُم، فصيح بليغ، والباء: إما متعلق بمنذرين، أي: لتكون من الذين أَنْذَرُوا بهذا اللسان؛ وهم هود وصالح وشعيب وإسماعيل ـ عليهم السلام ـ أو: بنزل، أي: نزله بلسان عربي؛ لتُنذر به، لأنه لو نزل بلسان أعجمي لتجافوا عنه، ولقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه؟ فيتعذر الإنذار به. وهذا أحسن لعمومه؛ أي: لتكون من جملة من أنذر قبلك، كنوح وإبراهيم وموسى، وغيرهم من الرسل، عربيين أو عجمين، وأشد الزواجر تأثيراً في قلوب المشركين: ما أنذره إبراهيم؛ لانتمائهم إليه، وادعائهم أنهم على ملته.
{ وإنه } أي: القرآن { لفي زُبُرِ الأَوَّلِينَ } يعني: أنه مذكور في سائر الكتب السماوية. وقيل: ثبت فيها معناه، فإن أحكامه التي لا تحتمل النسخ والتبديل، بحسب تبدل الأعصار، من التوحيد وسائر ما يتعلق بالذات والصفات مسطورة فيها، وكذا ما في تضاعيفه من المواعظ والقصص. قال النسفي: وفيه دليل على أن القرآن إذا ترجم عنه بغير العربية بقي قرآناً، ففيه دليل على جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة. هـ. وهو حنفي المذهب، وأما مذهب مالك: فلا.
{ أوَ لمْ يكن لهم آيةً } أي: أغفلوا ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزيل رب العالمين حقاً، { أن يعلمه علماءُ بني إسرائيل }، كعبد الله بن سلام، وغيره، لوجود ذكره في التوراة. قال تعالى:
{ { وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } [القصص: 53]. والمعنى: أَوَ لَمْ يكفهم دليلاً على كون القرآن من عند الله عَلِم أَحْبَارِ بني إسرائيل به. ومعرفتهم له، كما يعرفون أبناءهم؛ لموافقته لما عندهم في كثير من القصص والأخبار، حتى إن سورة يوسف مذكورة في التوراة بمعنى واحد، وترتيب واحد، وما اختلف مع القرآن فيها إلا في كلمة واحدة: "وجاؤوا على قميصه بدم كذب"، عندهم في التوراة: وجاؤوا على قميصه بدم جدي. وكذا سورة طه: جُلهَا في التوراة. وقد تقدم الحديث: "أوتيت طه والطواسين والحواميم من ألواح موسى" . وقد فسر بعض علماء هذه الأمة القرآن العظيم كله بالكتب المتقدمة، ينقل في كل آية ما يوافقها من الكتب السماوية.
ثم قال تعالى: { ولو نزَّلناه على بعض الأَعْجَمِينَ } أي: ولو نزلناه كما هو بنظمه الرائق على بعض من لا يفهم العربية، ولا يقدر على التكلم بها، { فقرأه عليهم } قراءة صحيحة، خارقة للعادة، { ما كانوا به مؤمنين } مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء؛ لفرط عنادهم، وشدة شكيمتهم، قال النسفي: والمعنى: إنّا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربيٍّ مبين، ففهموه، وعرفوا فصاحته وأنّه معجز، وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتاب قبله على البشارة بإنزاله، وصفته في كتبهم، وقد تضمّنت معانيه وقصصه، وصح بذلك أنها من عند الله، وليست بأساطير كما زعموا، فلم يؤمنوا به، وسمّوه شعراً تارة، وسحراً أخرى. ولو نزلناه على بعض الأعاجم، الذي لا يحسن العربية، فضلاً أن يقدر على نظم مثله، { فقرأه عليهم } هكذا معجزاً، لكفروا به، ولتمحّلوا لجحودهم عذراً، ولسموه: سحراً. هـ.
والأعجمين: جمع الأعجمي، فإن أفعل، إذا كان للتفضيل، يجمع جمع سلامة إذا لم يكن معناه للتفضيل كأحمر، وأصل الأعجمين: الأعجمين، فحذفت ياؤه، وقيل: جمع أعجم، فلا حذف.
{ كذلك سَلَكْنَاه } أي: أدخلنا التكذيب والكفر، وهو مدلول قوله: { ما كانوا به مؤمنين }، { في قلوب المجرمين }: الكافرين الذين علمنا منهم اختيار الكفر والإصرار عليه. يعني: مثل هذا السَّلْكِ الغريب سلكناه في قلوبهم وقررناه فيها، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه، من التكذيب والإصرار عليه، وهو حجتنا على المعتزلة في خلق أفعال العباد؛ خيرها وشرها.
وقوله: { لا يؤمنون } توضيح وتقرير لما قبله. ويجوز أن يكون حالاً، أي: سلكناه فيها غير مؤمنين به، أو: مثل ذلك السلك البديع سلكناه، أي: أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين، ففهموا معانيه، وعرفوا فصاحته وبلاغته، وأنه خارج عن القوة البشرية، من حَيْثُ النَّظْم المعجز والأخبار الغيبية. وقد انضم إليه اتفاق علماء أهل الكتاب على اتفاقه لما في أيديهم من الكتب السماوية. ومع ذلك { لا يؤمنون به }، ولا يتأثرون بأمثال تلك الأمور الداعية إلى الإيمان، بل يستمرون على ما هم عليه، { حتى يَرَوُا العذابَ الأليم } الملجئ إلى الإيمان، حين لا ينفعهم الإيمان، { فيأتيهم بَغْتَةً }؛ فجأة في الدنيا والآخرة { وهم لا يشعرون } بإتيانه، { فيقولون هل نحن مُنْظَرُون }؛ مُؤَخَّرُون ساعة. قالوه تَحَسُّراً على ما فات من الإيمان، وتمنياً للإمهال؛ لتلافي ما فرضوه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا تطهر القلب من الأكدار والأغيار، وملئ بالمعارف والأسرار، كان مَهْبِطاً لوحي الإلهام ووحي الإعلام، ومحلاً لتنزل الملائكة الكرام، إذ كل ما أعطى للرسول كان لوارثه الحقيق منه شِرْبٌ ونصيب؛ ليكون من الواعظين بلسان عربي مبين، يُفصح عن جواهر الحقائق، ويواقيت العلوم، وما ينطق به من العلوم يكون موافقاً لما في زُبُر الأولين، وإن كان أمياً؛ لأن علوم الأذواق لا تختلف. أو لم يكن لهم آية على ولايته أن يعلمه علماء أهل فنه من المحققين.
وقال الورتجبي على هذه الآية: أخبر الله سبحانه أن قلب محمد صلى الله عليه وسلم محل نزول كلامه الأزلي؛ لأنه مصفى من جميع الحدثان، بتجلي مشاهدة الرحمن، فكان قلبه ـ عليه الصلاة والسلام ـ صَدَف لآلِئَ خطابِ الحق، يسْبَح في بحار الكرم، فيتلقف كلام الحق من الحق بلا واسطة، وذلك سر عجيب وعلم غريب؛ لأنه يجمع كلام الحق وما اتصل به، وكلامه لم ينفصل عنه، وكيف تفارق الصفات الذات، لكن أبقى في قلبه ظاهره وعلمه وسره، فجبريل ـ عليه السلام ـ في البين: واسطة لجهة الحرمة، وذكر ذلك بقوله: { نزل به الروح الأمين على قلبك... }؛ لأن القلب معدن الإلهام والوحي والكلام والرؤية والعرفان، به يحفظ الكلام. وفائدة ذلك: الإعلام بسر وجود الإنسان، وأنه ليس شيء يليق بالخطاب ونزول الأنباء إلا قلبه، وكل قلب مسدود بعوارض البشرية لا يسمع خطاب الحق، ولا يرى جمال الحق. قال أبو بكر بن طاهر: ما أنزله على جبريل جعله محلاً للإنذار، لا التحقيق، والحقيقة هو ما تلقفه من الحق، فلم يخبر عنه، ولم يشرف عليه خلق من الجن والإنس والملائكة؛ لأنه ما أطاق ذلك أحد سواه. وما أنزل جبريل جعله للخلق، فقال: { لتكون من المنذرين } بما نزل به جبريل على قلبك المتحقق، فإنك متحقق بما كافحناك به، وخاطبناك على مقامٍ لو شاهدك فيه جبريل لاحترق. هـ. على تصحيف في النسخة. وبالله التوفيق.
ثم هددّهم بنزول العذاب، فقال: { أَفَبِعَذَابِنَا .... }