خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ
٨٣
حَتَّىٰ إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٨٤
وَوَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ
٨٥
أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٨٦
-النمل

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: "ماذا" تأتي على أوجه؛ أحَدُها: أن تكون "ما": استفهاماً، و "ذا": إشارة نحو: ماذا التواني. الثاني: أن تكون "ما": استفهاماً، و"ذا": موصولة، كقول لبيد:

ألا تَسْأَلانِ المرْءَ ماذا يُحاوِلُ؟أَنَحْبٌ فَيُقْضَى، أَمْ ضَلالٌ وباطِلُ؟

الثالث: "ماذا" كله: استفهام على التركيب، كقولك: لماذا جئت؟. الرابع: أن تكون "ماذا" كله: اسم جنس بمعنى شيء, أو: بمعنى "الذي" كقوله: دعني ماذا علمت؟، وتكون "ذا" زائدة. انظر القاموس.
يقول الحق جل جلاله: { و } اذكر { يوم نحشُرُ من كل إمةٍ فوجاً }، الفوج، الجماعة الكثيرة. و"مِنْ": للتبعيض، أي: واذكر يوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة { ممن يُكَذِبُ بآياتنا }، "مِن": لبيان الفوج، أي: فوجاً مكذبين بآياتنا، المنزلة على أنبيائنا، { فهم يُوزَعُون }: يُحبس أولهم على آخرهم، حتى يجتمعوا، حين يُساقون إلى موضع الحساب. وهذه عبارة عن كثرة العدد، وتباعد أطرافهم، والمراد بهذا الحشر: الحشر للعذاب، والتوبيخ والمناقشة، بعد الحشر الكلي، الشامل لكافة الخلق.
وعن ابن عباس: (المراد بهذا الفوج: أبو جهل، والوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة، يُساقون بين يدي أهل مكة) وهكذا يُحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار.
{ حتى إِذا جاؤوا } إلى موقف السؤال والجواب، والمناقشة والحساب، { قال } أي: الله عز وجل، موبخاً لهم على التكذيب: { أَكَذَّبتم بآياتي } المنزلة على رسلي، الناطقة بلقاء يومكم، { و } الحال أنكم { لم تُحيطوا بها علماً } أي: أكذبتم بها في بادئ الرأي، من غير فكر، ولا نظر، يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق حتماً. وهذا نص في أن المراد بالآيات في الموضعين هي الآيات القرآنية. وقيل: هو عطف على "كذبتم"، أي: أجمعتم بين التكذيب وعدم التدبر فيها. { أم ماذا كنتم تعملون }؟ حيث لم تتفكروا فيها، فإنكم لم تُخلقوا عبثاً. أو: أيُّ شيء كنتم تعملون، استفهام، على معنى استبعاد الحجج، أي: إن كانت لكم حجة وعمل فهاتوا ذلك. وخطابهم بهذا تبكيت لهم. ثم يُكبون في النار، وذلك قوله تعالى: { ووقع القولُ عليهم } أي: حلَّ بهم العذاب، الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله ونزوله، { بما ظَلموا }: بسبب ظلمهم، الذي هو تكذيبهم بآيات الله { فهم لا ينطقون }؛ لانقطاعهم عن الجواب بالكلية، وابتلائهم بشغل شاغل من العذاب الأليم، يشغلهم العذاب عن النطق والاعتذار.
ثم ذكر دلائل قدرته على البعث، وما ينشأ بعد ذلك، بقوله: { ألم يروا أنَّا جعلنا الليلَ ليَسكُنوا فيه }، الرؤية هنا قلبية، أي: ألم يعلموا أنا جعلنا الليل بما فيه من الإظلام ليستريحوا فيه بالنوم والقرار. { والنهارَ مبصراً } أي: يُبصروا، بما فيه من الإضاءة، طرق التقلب في أمور المعاش. وبولغ فيه، حيث جعل الإبصار الذي هو حال الناس، حالاً له، ووصفاً من أوصافه، بحيث لا ينفك عنها، ولم يسلك في الليل هذا المسلك؛ لأن تأثير ظلام الليل في السكون ليس بمثابة تأثير النهار في الإبصار. قاله أبو السعود. قلت: وقد جعله كذلك في قوله:
{ { وَجَعَلَ ٱلْلَّيْلَ سَكَناً } [الأنعام: 96] فانظره.
{ إنَّ في ذلك لآياتٍ } كثيرة { لقوم يؤمنون }؛ يُصدِّقون، فيعتبرون، فإنَّ من تأمل في تعاقب الليل والنهار، واختلافهما على وجوه بديعة، مبنية على حِكَمٍ رائقة، تحار في فهمها العقول، وشاهد في الآفاق تبدل ظلمة الليل، المحاكية للموت، بضياء النهار، المضاهي للحياة، وعاين في نفسه غلبة النوم، الذي هو يضاهي الموت، وانتباهه منه، الذي هو يضاهي البعث، قضى بأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
قال لقمان لابنه: يا بُني إن كنت تشك في الموت فلا تنم، فكما أنك تنام قهراً؛ كذلك تموت، وإن كنت تشك في البعث فلا تنتبه، فكما أنك تنتبه بعد نومك؛ كذلك تُبعث بعد موتك هـ. وبالله التوفيق.
الإشارة: يوم نَحشر من كل أمة فوجاً يُنكر على أهل الخصوصية، ممن يكذب بآياتنا، وهم العارفون بنا، الدالون علينا، المعرِّفون بنا، فهم يُوزعون: يُجمعون للعتاب، حتى إذا جاؤوا إلينا بقلب سقيم، قال: أكذَّبتم بأوليائي، الدالين على حضرتي، بعد التطهير والتهذيب، ولم تُحيطوا بهم علماً، منعكم من ذلك حب الرئاسة والجاه، أم ماذا كنتم تعملون؟. ووقع القول عليهم بالبقاء مع عامة أهل الحجاب، فهم لا ينطقون، ولا يجدون اعتذاراً يُقبل منهم. ألم يعلموا أنهم يموتون على ما عاشوا عليه، ويُبعثون على ما ماتوا عليه، فهلاّ صحبوا أهل اليقين الكبير، - وهو عين اليقين أو حق اليقين المستفاد من شهود الذات الأقدس - فيكتسبوا منهم اليقين، حتى يموتوا على اليقين ويُبعثوا على اليقين. وبالله التوفيق.
ثم ذكر النفخ في الصور، وما يكون بعده من الأهوال، فقال: { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ... }