خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ
٢٩
فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي ٱلأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يٰمُوسَىٰ إِنِّيۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٣٠
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يٰمُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ ٱلآمِنِينَ
٣١
ٱسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
٣٢
-القصص

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: { فلما قضى موسى الأجلَ }، قال صلى الله عليه وسلم: "قضى أبعدهما وأطيبهما" ، وفي رواية: "أبرهما وأوفاهما" { وسارَ بأهله } أي: امرأته، نحو مصر، قال مجاهد: ثم استأذن موسى أن يزور أهله بمصر، فأذن له، فسار بأهله إلى البَرِّيَّةِ، فأوى إلى جانب الطور الغربي الأيمن، في ليلة مظلمة شديدة البرد، وكان أخذ على غير طريق، يخاف ملوك الشام - قلت: ولعلهم كانوا من تحت يد قرعون - فأخذ امْرَأَتَهُ الطَّلقُ، فقدح زنده، فلم يور، فآنس من جانب الطور ناراً. هـ.
وقال ابن عطاء: لما تم أجل المحنة، ودنت أيام الزلفة، وظهرت أنوار النبوة، سار بأهله؛ ليشتركوا معه في لطائف صنع ربه. هـ. { آنس } أي: أبصر { من جانب الطُور } أي: من الجهة التي تِلْوَ الطورِ { ناراً قال لأهله امكثوا إني آنستُ ناراً لعلي آتيكم منها بخبر } عن الطريق؛ لأنه كان ضل عنها، { أو جذوة من النار } أي: قطعة وشُعلة منها، والجُذوة - مثلثة الجيم: العُود الذي احترق بعضه، وجمعه: "جِذّى". { لعلكم تصطلون }؛ تستدفئون بها. والاصطلاء على النار سُنَّة المتواضعين. وفي بعض الأخبار: "اصطلوا؛ فإن الجبابرة لا يصطلون".
{ فلما أتاها نُودي من شاطىء الوادِ الأيمنِ } بالنسبة إلى موسى، أي: عين يمين موسى، { في البقعة المباركةِ } بتكليم الله تعالى فيها، { من الشجرة }؛ بدل من "شاطىء": بَدَلَ اشتمالٍ أي: من ناحية الشجرة، وهو العنَّاب، او العوسج، أو: سمرة. وقال وهب: عُليقاً. { أن يا موسى }. أي: يا موسى، أو: إنه يا موسى { إني أنا الله ربُّ العالمين }، قال البيضاوي: هذا، وإن خالف ما في "طه" و "النمل"؛ لفظاً، فهو طبْقُهُ في المقصود. هـ.
قال جعفر الصادق: أبصر ناراً، دلته على الأنوار؛ لأنه رأى النور على هيئة النار، فلما دنا منها؛ شملته أنوار القدس، وأحاطت به جلابيب الأنس، فخاطبه الله بألطف خطاب، واستدعى منه أحسن جواب، فصار بذلك مُكَلَّماً شريفاً، أُعْطِيَ ما سأل، وأمن ممن خاف. هـ.
قال القشيري: فكان موسى عند الشجرة، والنداء من الله لا منها، وقد حصل الإجماع أن موسى، تلك الليلة، سمع كلام الله، ولو كان النداء من الشجرة؛ لكانت المتكلمة هي، فلأجل الإجماع قلنا: لم يكن النداء منها، وإلا فنحن نجوز أن يخلق الله نداء في الشجرة. هـ. قلت: وسيأتي في الإشارة ما لأهل التوحيد الخاص، وما قاله - هو مذهب أهل الظاهر.
ثم قال تعالى: { وأن أَلْق عَصَاكَ }، أي: نودي: أن ألق عصاك، فألقاها، فقلبها الله ثعباناً، { فلما رآها تهتزُّ }؛ تتحرك { كأنها جانٌّ }؛ حية رقيقة. فإن قيل: كيف قال في موضع: (كأنها جان)، وفي أخرى:
{ { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [الأعراف: 143]؟ قلت: هي في أول أمرها جان، وفي آخر أمرها ثعبان؛ لأنها كانت تصير حية على قدر العصا، ثم لا تزال تنتفخ حتى تصير كالثعبان، أو: يُريد في سرعة الجان وخفته، وفي قوة الثعبان. فلما رآها كذلك { ولّى مُدْبِراً ولم يُعقِّبْ }؛ ولم يرجع عقبه. فقيل له: { يا موسى أقبلْ ولا تخفْ إنك من الآمنين }، أي: أمنت من أن ينالك مكروه من الحية.
و { اسلكْ }: أَدْخِلْ { يدكَ في جَيْبِكَ }؛ جيب قمصيك { تخرج بيضاءَ } لها شعاع كشعاع الشمس { من غير سُوءٍ }؛ برص. { واضمم إليك جناحكَ من الرَّهْبِ }، أي: الخوف، فيه لغات: "الرُّهبُ"، بفتحتين، وبالفتح والسكون، وبالضم معه، وبضمتين. والمعنى: واضمم يدك إلى صدرك؛ يذهب ما لحقك من الخوف لأجل الحية، وعن ابن عباس رضي الله عنه: (كل خائف، إذا وضع يده على صدره، ذهب خوفه). وقيل: المراد بضم يده إلى جناحه تجلده، وضبطه نفسه عند انقلاب العصا حية، حتى لا يضطرب ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر؛ لأنه إذا خاف؛ نشر جناحيه وأرخاهما.
{ فذانِك } أي: اليد والعصا، ومن شدد؛ فإحدى النونين عِوَضٌ من المحذوف، { بُرهانان } أي: حجتان نيرتان. وسميت الحجة برهاناً؛ لإنارتها، من قولهم: بَره الشيء: إذا ابيض، والمرأة بَرهَاءُ وَبرَهْرَهَةٌ: أي: بيضاء. { من ربك إلى فرعون وملئه } أي: أرسلناك إلى فرعون وقومه بهاتين الحجتين، { إنهم كانوا قوماً فاسقين }: خارجين عن الحق، كافرين بالله ورسوله.
الإشارة: قد تقدم في سورة "طه" بعض إشارتها. ويؤخذ من الآية أن تزوج المريد، بعد كمال تربيته، كمال، وأما قبل كماله: فإن كان بإذن شيخه؛ فلا يضره. وربما يتربى له اليقين أكثر من غيره. وقوله تعالى: { وسار بأهله }؛ قال الورتجبي: افهم أن مواقيت الأنبياء والأولياء وقت سير الأسرار من بدء الإرادة إلى عالم الأنوار. هـ. وقوله تعالى: { آنست ناراً }؛ قال الورتجبي: الحكمة في ذلك: أن طبع الإنسانية يميل إلى الأشياء المعهودة، لذلك تجلى النور في النار؛ لاستئناسه بلباس الاستئناس، ولا تخلوا النار من الاستئناس، خاصة في الشتاء، وكان شتاءً، فتجلى الحق بالنور في لباس النار؛ لأنه كان في طلب النار، فأخذ الحق مراده، وتجلى مِنْ حَيْثُ إِرَادَاته، وهو سنة الله تعالى. هـ.
وقوله تعالى: { من الشجرة }؛ أي: نودي منها حقيقة؛ إذ ليس في الوجود إلا تجليات الحق ومظاهره، فيكلم عباده من حيث شاء منها. قال في العوارف: الصوفي؛ لتجرده، يشهد التالي كشجرة موسى، حيث أسمعه الله خطابه منها، بأني أنا الله لا إله إلا أنا. هـ. فأهل التوحيد الخاص لا يسمعون إلا من الله، بلا واسطة، قد سقطت الوسائط في حقهم، حين غرقوا في بحر شهود الذات، فافهم. وقال في القوت: كانت الشجرة وجهة موسى عليه السلام، كلمة الله عز وجل منها، كما قال بعضهم: إن قوله تعالى:
{ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } [الأعراف: 107، والشعراء: 32]، أي: بالجبل، كان الجبل من جهة الحس حجاباً لموسى، كشفه الله عنه، فتجلى به، كما قال: { من الشجرة }؛ فكانت الشجرة وجهة له عليه السلام هـ، بإيضاح. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر اعتذار موسى وطلبه الإعانة بأخيه، فقال: { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ... }