خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٠٣
-آل عمران

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: أصل الحبل في اللغة: السبب المُوصِّل إلى البغية، سمى به الإيمان أو القرآن؛ لأنه يُوصل إلى السعادة السرمدية، و { شفا حفرة }، وأصله: (شفو)، فقلبت ألفاً في المذكر، وحذفت في المؤنث، فقالوا: شفة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { واعتصموا } أي: تمسكوا يا معشر المسلمين { بحبل الله } أي: الإيمان، أو كتاب الله، لقوله عليه الصلاة والسلام:
"إنَّ هذا القرآن هو حَبْلُ الله المّتِين، وهو النورُ المُبِينُ، والشِّفَاءُ النافِعُ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ به..." . الحديث. حال كونكم { جميعاً } أي: مجتمعين عليه، { ولا تفرقوا } تفرقكم الجاهلي، أو لا تفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب. قال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ بَني إسْرائيلَ افتَرقَتْ على إحْدى وسَبْعِينَ فِرْقةً، وإنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ على ثِنتَيْنِ وسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلّها في النَّارِ إلا واحِدَةً، فقيل: يا رسول الله، ما هذه الواحدة؟ فقبض يده وقال: الجَمَاعَةُ، ثمَّ قرأ:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا }" .
{ واذكروا نعمت الله عليكم }، التي من جملتها الهداية للإسلام المؤدِّي إلى التآلف وزوال الغِلِّ، { إذ كنتم أعداء } في الجاهلية، يقتل بعضُكم بعضاً، { فألّف بين قلوبكم } بالإسلام، { فأصبحتم بنعمته إخواناً } متحابين مجتمعين على الأخوة في الله. قال عليه الصلاة والسلام: "لا تَحَاسَدُوا، ولا تَبَاغَضُوا، ولا تَدَابَرُوا، وكُونُوا عبادَ الله إخْواناً، المسلمُ أَخُوا المسلمُ لا يَظْلِمُه ولا يَخْذُلُه" . الحديث. رُوي أن الأوس والخزرج كانوا أخَوَيْن، فوقع بين أولادهما العداوة، وتطاولت الحرب بينهما مائة وعشرين سنة، حتى أطفأها الله بالإسلام، وألف بينهم برسول الله عليه الصلاة والسلام - فنزلت فيهم هذه الآية.
ثم قال لهم: { وكنتم على شفا حفرة من النار } أي: مُشرفين على نار جهنم، إذ لو أدرككم الموت لوقعتم في النار، { فأنقذكم } الله { منها } برسوله - عليه الصلاة والسلام -: رُوِيَ أن أعرابيّاً سمع ابن عباس يقرأ هذه الآية، فقال الأعرابي: والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها، فقال ابن عباس رضي الله عنه خذوها من غير فقيه. هـ. { كذلك يبين الله لكم آياته } أي: مثل هذا النبيين { يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } إلى الخير، وتزيدون ثباتاً فيه.
الإشارة: المذاهب كلها وقع فيها الاختلاف والتفرق في الأصول والفروع، إلا مذاهب الصوفية فكلها متفقة بداية ونهاية، إذ بدايتهم مجاهدة، ونهايتهم مشاهدة، وإلى ذلك أشار في المباحث، حث قال:

مذاهبُ الناسِ على اخْتلاف ومَذْهَبُ القَوْمِ على ائْتِلاَف

وإن وقع الاختلاف في بعض الطرق الموصلة إلى المقصود، فقد اتفقت في النهاية، بخلاف أهل الظاهر، لا تجدهم يتفقون إلا في مسائل قليلة، لأن مذهبهم مبني على غلبة الظن، ومذهب القوم مبني على التحقيق ذوقاً وكشفاً، وكذلك ائتلفت أيضاً قلوبهم وأرواحهم، إذ كلهم متخلقون بالشفقة والرأفة والمودة والألفة والصفا؛ لأنهم دخلوا الجنة - أعني جنة المعارف - فتخلقوا بأخلاق أهل الجنة، قال تعالى: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [الحِجر: 47]، فيقال لهم بعد الفتح: واذكروا نعمة الله عليكم، إذ كنتم أعداء قبل اتصالكم بالطبيب، فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته أخواناً متحابين، وكنتم على شفا حفرة من نار القطيعة والحجاب { فأنقذكم منها }. مثل هذا البيان يوضح الله آياته، أي: تجلياته، لعلكم تهتدون إلى مشاهدة ذاته في أنوار صفاته. والله تعالى أعلم.