خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ
٢٨
قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٩
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ
٣٠
-آل عمران

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { تُقاة }: مصدر تَقَى، على وزن فَعَل، وله مصدران آخران: تُقّى وتَقِيَّة - بتشديد الياء -، وبه قرأ بعقوب، وأصله: تُقِيَة، فقلبت الياء ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها. و { يوم }: ظرف، والعامل فيه: اذكر، أو اتقوا، أو المصير، أو تود، و { ما عملت } : مبتدأ، و { تود }: خبر، أو معطوف على { ما عملت } الأولى، و { تود }:
حال.
يقول الحقّ جلّ جلاله، لقوم من الأنصار، كانوا يُوالون اليهود؛ لقرابة أو صداقة تقدمت في الجاهلية: { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء }، أي: أصدقاء، إذ الحب إنما يكون في الله والبغض في الله، أو لا تستعينوا بهم في غزو ولا غيره، فلا تودوهم { من دون المؤمنين }؛ إذ هم أحق بالمودة، ففيهم مَنْدُوحة عن مولاة الكفرة، { ومن يفعل ذلك } الاتخاذ { فليس من } ولاية { الله في شيء }؛ إذ لا تجتمع ولاية الله مع ولاية عدوه. قال الشاعر:

تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمِّ تَزْعُمُ أنَّني صَدِيقكَ، لَيْسَ النّوْك عَنْكَ بِعَازِبِ

والنُّوك - بضم النون -: الحُمْق.
فلا تُوالوا الكفار { إلا أن تتقوا منهم تقاة } أيْ: إلا أن تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه، فلا بأس بمداراتهم ظاهراً، والبعد منهم بطناً، كما قال عيسى عليه السلام: (كن وَسَطاً وامْشِ جانباً). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: خالطوا الناس وزايلوهم، وصافحوهم بما يشتهون، ودينكم لا تَثْلُموه. وقال جعفر الصادق: إني لأسمع الرجل يشتمني في المسجد، فأستتر منه بالسارية لئلا يراني. هـ. { ويحذركم الله نفسه } أي: يخوفكم عذابه على موالاة الكفار ومخالفة أمره وارتكاب نهيه، تقول العرب: احذرنا فلاناً: أي: ضرره لا ذاته، وفي ذكر النفس زيادة تهديد يُؤذِن بعقاب يصدر منه بلا واسطة، { وإلى الله المصير }؛ فيحسر كل قوم مَن أحب.
{ قل إن تخفوا ما في صدوركم } من موالاة أعدائه، { أو تبدوه يعلمه الله }؛ فلا يخفى عليه ما تُكن الصدور من خير أو شر. وقدَّم في سورة البقرة الإبداء، وأخره هنا؛ لأن المحاسبة لا ترتيب فيها بخلاف العلم، فإن الأشياء التي تبرز من الإنسان يتقدم إضمارها في قلبه ثم تبرز، فقد تعلق علم الله تعالى بها قبل أن تبرز، فلذلك قدَّم هنا الإخفاء لتقدم وجوده في الصدر، وأخره في البقرة، لأن المحاسبة لا ترتيب فيها، { ويعلم ما في السماوات وما في الأرض } فلا يخفى عليه شيء، { والله على كل شيء قدير }؛ فيقدر على عقوبتكم إن لم تنتهوا، والآية بيان لقوله: { ويحذركم الله نفسه }؛ لأن الذات العالية متصفة بعلم محيط بجميع المعلومات، وبقدرة تحيط بجميع المقدورات، فلا تجسروا على عصيانه، فإنه ما من معصية إلا وهو مطلع عليها، قادرٌ على العقاب عليها يوم القيامة.
{ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً } بين يديها تنتفع به، { وما عملت من سوء تود له أن بينها وبينه أمداً بعيداً }، كما بين المشرق والمغرب، ولا ينفع الندم وقد زلَّت القدم. { ويحذركم الله نفسه }، كرره للتأكيد وزيادة التحذير، وسيأتي في الإشارة حكمة تكريره، { والله رؤوف بالعباد } حيث حذرهم مما يضرهم، وأمرهم بما يقربهم، فكل ما يصدر منه - سبحانه - في غاية الكمال.
الأشارة: لا ينبغي للمريد الصادق أن يخالط أهل الغفلة، ولا يتودد معه؛ فإن ذلك يقطعه عن ربه، ويصده عن دواء قلبه، وفي ذلك يقول صاحب العينية:

وَقَاطِعْ لِمَنْ وَاصَلْتَ أيَّامَ غَفْلَةٍ فَمَا وَاصَلَ العُذْالَ إلاَّ مُقَاطِعُ
وَجَانِب جَنَابَ الأَجْنَبِي لَو أنَّهُ لِقُربِ انْتِسَابِ فِي المَنَامِ مُضَاجع
فَلِلنَّفْسِ مِنْ جُلاَّسِهَا كُلُّ نِسْبَةٍ وَمِنْ خُلَّةٍ لِلْقَلْبِ تِلْكَ الطَّبَائِعُ

إلا أن يتقي منهم تقية، بحيث تلجئه الضرورة إلى مخالطتهم، فيخالطهم بجسمه ويفارقهم بقلبه، وقد حذَّر الصوفية من صحبة أرْبَع طوائف: الجبابرة المتكبرون، والقراء المداهنون، والمتفقرة الجاهلون، والعلماء المتجمدون؛ لأنهم مُولَعون بالطعن على أولياء الله، يرون ذلك قربة تُقربهم إلى الله.
ثم قال: { ويحذركم الله نفسه } أن تقصدوا معه غيره، وهذا خطاب للسائرين بدليل تعقيبة بقوله: { وإلى الله المصير } أي: إليه ينتهي السير وإليه يكون الوصال، ثم شدد عليهم في المراقبة فقال: { إن تُخفوا ما في صدوركم } من الميل أو الركون إلى الغير أو الوقوف عن السير، { أو تبدوه يعلمه الله }؛ فينقص عنكم المدد بقدر ذلك الميل، يظهر ذلك يوم الدخول إلى بلاد المشاهدة، { يوم تجد كل نفس } ما قدمت من المجاهدة، فبقدر المجاهدة تكون المشاهدة. ثم خاطب الواصلين فقال: { ويحذركم الله نفسه } من أن تشهدوا معه سواه، فلو كُلّف الواصل أن يشهد غيره لم يتسطع، إذ لا غير معه حتى يشهده. ويدل على أن الخطاب هنا للواصلين تعقيبه بالمودة والرأفة، اللائقة بالواصلين المحبوبين العارفين الكاملين. خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه.
ثم لا طريق للوصول إلى هذا كله إلا باتباع الرسول الأعظم.