خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
٥٥
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٥٦
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ
٥٧
ذٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَٱلذِّكْرِ ٱلْحَكِيمِ
٥٨
-آل عمران

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: { إذ قال }: ظرف لمقدر، أي: اذكر، أو وقع ذلك إذ قال، أو لمكروا، و { متوفيك } أي: رافعك إليَّ وافياً تاماً، من قولهم: توفيت كذا واستوفيته: قبضته وافياً تامّاً، أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت، أو منيمك؛ بدليل قوله تعالى: { وَهُوَا الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ } [الأنعَام: 60]، رُوِيَ أنه رُفع نائماً، والإجماع على أنه لم يمت، قال تعالى: { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم }، وقوله: { ذلك } مبتدأ، و { نتلوه }: خبر، و { من الآيات }: حال، أو { من الآيات }: خبر، و { نتلوه }: حال، أو خبر بعد خبر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: اذكر { إذ قال الله } لعيسى عليه السلام لما أراد رفعه: { يا عيسى إني متوفيك }، أي: قابضك إليّ ببدنك تامّاً، { ورافعك إليَّ } أي: إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي، { ومطهرك من الذين كفروا } أي: من مخالطة دنس كفرهم، { وجاعل الذين اتبعوك }؛ ممن صدق بنبوتك من النصارى والمسلمين، وقال قتادة والشعبي والربيع: هم أهل الإسلام. هـ. فوالله ما اتبعه من ادعاه ربا، فمن تبع دينه حقّاً وقد حقق الله فيهم هذا الأمر، فإن اليهود لم ترفع لهم راية قط، ولم يتفق لهم ملك ولا دولة إلى زمننا هذا.
ثم قال تعالى: { ثم إليَّ مرجعكم } بالبعث، { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } من أمر الدين وأمر عيسى. { فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة } أي: فأجمع لهم عذاباً الآخرة لعذاب الدنيا الذي أصابهم فيها من القتل والسبي. { وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فنوفيهم أجورهم } في الدارين بالنصر والعز في الدنيا، وبالرضا والرضوان في الآخرة، { والله لا يحب الظالمين }؛ لا يرضى فعلهم ولا يقربهم إليه.
{ ذلك } الذي ذكرت لك من نبأ عيسى ومريم ومن ذكر قبلهما، { نتلوه عليك من الآيات } أي: العلامات الدالة على صدقك، لأنها أخبار عن أمور لم تشاهدها ولم تقرأها في كتاب، بل هي من { الذكر الحكيم }، وهو القرآن المبين.
الإشارة: كل ما طهر سره من الأكدار، وقدس روحه من دنس الأغيار، ورفع همته عن هذه الدار، عرج الله بروحه إلى سماء الملكوت، ورفع سره إلى مشاهدة سنا الجبروت، وبقي ذكره حيّاً لا يموت، وجعل من انتسب إليه في عين الرعاية والتعظيم، وفي محل الرفعة والتكريم، قال - عليه الصلاة والسلام -:
"هَاجِرُوا تكسبوا العز لأولادكم" ، فمن هاجر وطن الحظوظ والشهوات، والركون إلى العوائد والمألوفات، عرجت روحه إلى سماء القدس ومحل الأنس، وتمكن من العز الذي لا يفنى، ينسحب عليه وعلى أولاده ومن انتسب إليه؛ إلى أن يرث الأرض ومن عليها، { وهو خير الوارثين }. هذه سنة الله في خلقه، لأنهم نصروا دين الله ورفعوا كلمة الله، فنصرهم الله، ورفعهم الله، قال تعالى: { إِن تَنصُروُاْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ } [محَمَّد: 7]، وقال تعالى: { وَجَعَلَ كَلِمَة الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا } [التّوبَة: 40]. وفي الحكم: "إن أردت أن يكون لك عز لا يفنى، فلا تستعزن بعز يفنى". والله تعالى أعلم.
وقال القشيري: الإشارة فيه: إني متوفيك عنك وقابضك منك، ورافعك عن نعوت البشرية، ومطهرك عن إرادتك بالكلية، حتى تكون مصدقاً لنا بنا، ولا يكون لك من اختيارك شيء، وتكون إسبال التولي عليك قائماً، وبهذا الوصف كان يظهر على يده إحياء الموتى، وما كانت تلك الأحداث حاصلة إلا بالقدرة عليه. هـ. وقال الورتجبي: متوفيك عن رسم الحدوثية، ورافعك إليَّ بنعت الربوبية، ومطهرك عن شوائب البشرية. هـ.