خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

الۤـمۤ
١
غُلِبَتِ ٱلرُّومُ
٢
فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ
٣
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ
٤
بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
٥
وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٦
يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ
٧
-الروم

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: بعد التسمية { الـۤـم } أي: أيها المصطفى، أو: المرسل، { غُلبت الرومُ } أي غلبت فارسُ الرومَ { في أدنى الأرض } أي: في أقرب أرض العرب؛ لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم، أي: غلبوا في أدنى أرض العرب منهم، وهي أطراف الشام. أو أراد أرضهم على إنابة اللام مناب المضاف إليه, أي: في أدنى أرضهم إلى عدوّهم. قال ابن عطية: قرأ الجمهور: "غُلبت"؛ بضم الغين. وقالوا: معنى الآية: أنه بلغ أهل مكة أن الملك كسرى هزَم جيشَ الروم بأذرعاتِ، وهي أدنى أرض الروم إلى مكة، فسُر لذلك كفارُ قريش، فبشر المؤمنين بأن الروم سيغلبون. هـ. وهذا معنى قوله: { وهم } أي: الروم { من بعد غَلَبِهم }، وقرئ: بسكون اللام؛ كالحلَب والحلْب، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: وهم من بعد غلبة فارس إياهم { سيَغْلِبون } فارس، وتكون الدولة لهم.
وذلك { في بِِضْعِ سنين }، وهو ما بين الثلاث إلى العشر. قال النسفي: قيل: احتربت الروم وفارس، بين أذرعاتِ وبُصرى، فغلبت فارسُ الروم، والمَلِكُ بفارس، يومئذٍ، كسرى "أبرويز"، فبلغ الخبر مكة، فشقَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ لأنَّ فارسَ مجوسٌ؛ لا كتاب لهم، والروم أهل كتاب، وفرح المشركون وشمتوا، وقالوا: أنتم والنصارى أهل الكتاب، ونحن فارس أُمِّيُّون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرنَّ نحن عليكم, فنزلت الآية. فقال أبو بكر: والله ليَظْهَرَنَّ الروم على فارس بعد بضع سنين، فقال له أُبَيُّ بنُ خلف: كذبت، فناحبه - أي: قامره - على عشر قلائص من كل واحد منهما، وجعل ثلالث سنين، فأخبر أبو بكر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال - عليه الصلاة والسلام-:
"زِدْ في الخطر وأبعد في الأجل" ، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين, ومات أبيّ من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد, وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، أو: يوم بدر، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أُبَيَّ، فقال عليه الصلاة والسلام -: "تصدَّقْ به" .
وهذه آية بينة على صحة نبوته، وأن القرآن من عند الله؛ لأنها إنباء عن علم الغيب. وكان ذلك قبل تحريم القمار، عن قتادة. ومذهب ابي حنيفة ومحمد - رضي الله عنهما -: أن العقود الفاسدة؛ كعقد الربا وغيره، جائز في دار الحرب بين المسلمين والكفار، واحتجا بهذه القصة. هـ. زاد البيضاوي: وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار. هـ وقرئ: "غلبت"؛ بالفتح، "وسيُغلبون" بالضم، ومعناه: أن الروم غَلَبُوا على ريف الشام، وسيغلبهم المسلمون، وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزولها، وفتحوا بعض بلادهم، وعلى هذا يكون إضافة الغلَب إلى الفاعل.
{ لله الأمرُ من قبلُ ومن بعد } أي: من قبل كل شيء، ومن بعد كل شيء. أو: من قبل الغلبة وبعدها، كأنه قيل: من قبل كونهم غالبين - وقبله: وهو وقت كونهم مغلوبين - ومن بعد كونهم مغلوبين - وهو وقت كونهم غالبين، يعني: أن كونهم مغلوبين أولاًُ، وغالبين آخراً، ليس إلا بأمر الله وقضائه.
{ وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ } [آل عمران: 140]. { ويومئذٍ } أي: ويوم تغلب الرومُ فارسَ، ويحل ما وعده الله من غلبتهم، { يفرح المؤمنون بنصر الله }، وتغلب من له كتاب على مَن لا كتاب له، وغيظ من شمت بهم من أهل مكة.
وقيل: نصر الله: هو إظهار صدق المؤمنين، بما أخبروا به المشركين من غلبة الروم. { ينصُر من يشاء } فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى، { وهو العزيزُ }: الغالب على أعدائه { الرحيمُ }: العاطف على أوليائه.
{ وَعْدَ اللهِ } اي: وعد ذلك وعداً، فسينجزه لا محالة، فهو مصدر مؤكّد لِمَا قبله؛ لأن قوله: { سيغلبون } وعد، { لا يُخْلِفَ الله وعْدَه }؛ لامتناع الكذب عليه تعالى، فلا بد من نصر الروم على فارس. { ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون } صحة وعده، وأنه لا يُخلف، أو: لا يعلمون أن الأمور كلها بيد الله؛ لجهلهم وعدم تفكرهم. وإنما { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا }؛ ما يشاهدونه منها من التمتع بزخارفها. وفيه دليل أن للدنيا ظاهراً وباطناً، فظاهرها: ما يعرفه الجهّال من التمتع بزخارفها. قال بعض الحكماء: إن كنت من أهل الاستبصار فألق ناظرك عن زخارف هذه الدار، فإنها مجمع الأكدار، ومنبع المضار، وسجن الإبرار، ومجلس الأشرار، الدنيا كالحية، تجمع سموم نوائبها، وتفرغه في صميم قلوب أبنائها. هـ. وباطنها: أنها مجازٌ إلى الآخرة، يتزودون منها إليها بالأعمال الصالحة وتحقيق المعرفة. وتنكير (ظاهِراً): مُفيدٌ أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة ظواهرها. { وهم عن الآخرة هم غافلون }؛ لا تخطر ببالهم، ولا يتفكرون في أهوالها ونوائبها. فهم، الثانية: مبتدأ، و(غافلون): خبره، والجملة: خبرالأولى، وفيه تنبيه أنهم معدن الغفلة ومقرّها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما تقع الدولة بين الأشباح، تقع بين النفوس, والأرواح. فتارة تغلب النفوس بظلماتها على الأرواح، فتحجبها عن الله، وتارة تغلب الأرواح بأنوارها على النفوس، فتستر ظلمة حظوظها، ويرتفع الحجاب بين الله وعبده. آلم. غُلبت أنوار الأرواح بظلمة كثائف النفوس, في أدنى أرض العبودية, وهم من بعد غلبهم سيغلبون, فتغلب أنوار الأرواح المطهرة، على ظلمة نفوس الظلمانية، وذلك في بضع سنين، مدة المجاهدة، والبُضع: من ثلاث إلى عشر، على قدر الجد والاجتهاد، وعلى قدر تفاوت النفوس والطبع، فمنهم من يظفر بنفسه في مدة يسيره، ومنهم من يظفر بعد مدة طويلة. لله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ، ويومئذٍ يفرح المؤمنون السائرون بنصر الله، حيث نصرهم على نفوسهم، فظفروا بها. ينصر من شاء حيث يشاء وهو العزيز الرحيم. قال بعضهم: انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا. هـ.
وقال الورتجبي: قوله: { غُلبت الروم.. } الآية، إشارة إلى أن الأرواح، وإن كانت مغلوبة من النفوس الأمارة، والشياطين الكافرة؛ امتحاناً من الله، وتربيةً لها بمباشرة القهريات، فإنها تغلب على النفوس، من حيث تخرج من مقام الاختيار. انظر تمامه. وقال القشيري: قوله تعالى: { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا }: استغراقُهم في الاشتغال بالدنيا، وانهماكهم بما مَنَعهم عن العلم بالآخرة وقيمة كل امرىءٍ عِلمُه؛ كما في الأثر عن عليّ رضي الله عنه. قال:

وَقِيمَةُ كُلِّ امْرِىءٍ مَا كَانَ يُتْقِنُهُوالجاهلون لأهلِ العِلْمِ أعداءُ

فأهل الدنيا في غفلة عن الآخرة، والمشتغلون بعلم الآخرة، هم بوجودها، في غفلة عن الله. هـ. قلت: وأهل المعرفة بالله لم يشغلهم عنه دنيا ولا آخرة. والله تعالى أعلم.
ثم أمر بالتفكر، فقال: { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ... }