خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٢٨
بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٢٩
-الروم

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: { ضَرَبَ لكم مثلاً } لقُبح الشرك وبشاعته، منتزعاً { من أنفسكم } التي هي أقرب شيء إليكم، وهو: { هل لكم }، معَاشرِ الأحْرَارِ، { مما ملكت أيمانُكُم } اي من عبيدكم { من شركاءَ فيما رزقناكم } من الأموال وغيرها. فَمِنْ، الأولى: للابتداء، والثانية: للتبعيض، والثالثة: مزيدة؛ لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. والمعنى: هل لكم، من بعض عبيدكم، شرك فيما رزقناكم، اي: هل ترضون أن يكون عبيدكم شركاء لكم، فيما رزقناكم؟ { فأنتم فيه سواء }؛ فتكونون أنتم وهم، فيما رزقناكم من الأموال، سواء؛ يتصرفون فيه كتصرفكم، ويحكمون فيه كحكمكم، مع أنهم بشرٌ مثلكم، حال كونكم { تخافونهم } أي: يستبدوا بالتصرف فيه، { كخِيفَتِكُم أنفُسَكُم } أي: كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض - فيما هو مشترك بينهم - أن يستبد فيه بالتصرف دونه. أو: تخافونهم أن يقاسموكم تلك الأموال، أو: يرثونها بعدكم، كما تخافون ذلك من بعضكم، فإذا لم تَرْضَوْا ذلك لأنفسكم، فكيف ترضونه لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد، أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء في استحقاق العبادة؟!
{ كذلك }، أي: مثل هذا التفصيل البديع، { نُفصِّلُ الآياتِ }؛ بينهما؛ لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها { لقوم يعقلون }؛ يتدبرون في ضرب الأمثال، ويعرفون حكمها وأسرارها، فلما لم ينزجروا أضرب عنهم، فقال: { بل اتَّبعَ الذين ظلموا } أنفسهم بالشرك { أهواءَهم بغير علمٍ }، أي: تبعوا أهواءهم، جاهلين، ولو كان لهم عِلْمٌ؛ لَرُجِيَ أن يزجرهم، { فمن يهدي من أضل الله }؟ اي: لا هادي له قط، { وما لهم من ناصرين } يمنعونهم من العذاب، أو: يَحْفُظونهم من الضلالة، أو: من الإقامة فيها.
الإشارة: ما قيل في الشرك الجلي يجري مثله في الشرك الخفي؛ فأن الحق تعالى غيور، لا يُحب العمل المشترك، ولا القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشترك لا يُقبل عليه، وأنْشَدُوا:

لِي محْبوبٌ إنما هُوَ غَيُورْيُطِلُّ في الْقَلْبِ كَطَيْر حَذُورْ
إذَا رَأَى شيئاً امتَنَعَ أَنْ يَزُورْ

فكما أنك لا ترضى من عبدك أن يُحب غيرك، ويخضع له، كذلك الحق تعالى، لا يرضى منكُ أن تميل لغيره. قال القشيري. قوله: { بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم }: أشدُّ الظلم متابعةُ الهوى؛ لأنه قريب من الشِّرْكِ. قال الله تعالى: { { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [ الجاثية: 23]، ومن اتَّبع هواه؛ خالف رضا مولاه، فهو، بوضع الشيء في غير موضعه، صار ظالماً، كما أن العاصي، بوضع المعصية في موضع الطاعة، صار ظالماً، كذلك بمتابعة هواه، بَدَلاً عن موافقة ومتابعة رضا مولاه، صار في الظلم متمادياً. هـ.
ثم أمر بالتوحيد الخالص المقصود من ضرب المثل، فقال: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ... }