خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ
٢٠
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ
٢١
-لقمان

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: { أَلَمْ تَرَوْا أن الله سخر لكم ما في السماوات والأرض }، يعني: الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب، والمطر، وغير ذلك، { وما في الأرض }، يعني: البحار والأنهار، والأشجار، والثمار، والدواب، والمعادن، وغير ذلك، { وأسْبَغَ }: أتم { عليكم نِعَمَه }، بالجمع، والإفراد؛ إرادة الجنس. والنعمة: ما يسر به الإنسان ويتلذذ به، حال كونها { ظاهرةً }؛ ما تدرك بالحس، { وباطنة }؛ ما تدرك بالعلم والوجدان. فقيل: الظاهرة. السمع، والبصر، واللسان، وسائر الجوارح الظاهرة، والباطنة: القلب، والعقل، والفهم، وما أشبه ذلك. أو: الظاهرة: الصحة والعافية، والكفاية؛ والباطنة: الإيمان، واليقين، والعلم والمعرفة بالله، وسيأتي في الإشارة بقيتها.
رُوي أن موسى عليه السلام قال: دُلني على أخفى نعمتك على عبادك، فقال: أخفى نعمتي عليهم: النَّفسُ. هـ. قلت: إذ بمجاهدتها تحصل السعادة العظمى، ولا وصول إليه إلا بمجاهدتها والغيبة عنها. وفي هذا المعنى كان شيخ شيخنا يقول: جزاها الله عنا خيراً؛ ما ربحنا إلا منها. هـ. وقيل: الظاهرة: تحسين الخلْق، والباطنة: حُسْنُ الخلقُ. وقال ابن عباس: الظاهرة: ما سوى من خلقك، والباطنة: ما ستر من عيوبك.
{ ومن الناس من يُجادل في الله } بعد هذه النعم المتواترة، أي: في توحيده وصفاته ودينه، { بغير علم } مستفاد من دليل ولا برهان، { ولا هُدىً } اي: هداية رسول، { ولا كتاب منير } أنزله الله، بل بمجرد التقليد الردي. نزلت في النضر بن الحارث. وقد تقدمت في الحج.
{ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله } على رسوله؛ من التوحيد، والشرائع، { قالوا بل نتبعُ ما وجدنا عليه آباءنا } من عبادة الأصنام. وهو دليل منع التقليد في الأصول. قاله البيضاوي قلت: والمشهور أن إيمان المقلِّد صحيح. وأما من قلَّد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم ينظر، فهو مؤمن، اتفاقاً. قال تعالى: { أَوَ لَو }؛ أيتبعونهم، ولو { كان الشيطانُ يدعوهم إلى عذاب السعير }، يحتمل أن يكون الضمير لهم، أي: أيقلدونهم، ولو كان يدعوهم بذلك التقليد إلى العذاب، أو: لآبائهم، أي: أيتبعون آباءهم، ولو كان الشيطان في زمانهم يدعوهم إلى عذاب السعير.
الإشارة: الأكوان كلها خُلِقَتْ لك أيها الإنسان، وأنت خُلِقْتَ للحضرة، فاعرف قَدْرَكَ، ولاتتعدَّ طَوْرَكَ، واشكر النعم لتي أسبغ عليك؛ ظاهرة وباطنة. الظاهرة: استقامة الظواهر في عمل الشرائع، والباطنة: تصفية البواطن؛ لتتهيأ لأنوار الحقائق، أو: الظاهرة: المنن، والباطنة: المحن. قال القشيري: قد تكلموا في الظاهرة والباطنة وأكثروا.
فالظاهرةُ: وجودُ النعمة، والباطنةُ: شهودُ المنعِم، أو: الظاهرةُ: الدنيويةُ، والباطنة: الدينية. أو: الخلْق والخُلق، أو: نَفْس بلا زَلَّة، وقلبٌ بلا غفلة، أو: عطاء ورضى. أو: الظاهرة: في الأموال ونمائها، والباطنة: في الأحوال وصفائها، أو: الظاهرة: النعمةُ، والباطنة: العصمةُ، أو: الظاهرةُ: توفيقُ الطاعات، والباطنة: قبولُها، أو: الظاهرة: صحبة العارفين، والباطنةُ: حِفْظُ حُرْمَتِهم وتعظيمهم. أو: الظاهرة: الزهدُ في الدنيا، والباطنة: الاكتفاءُ بالله من الدنيا والعُقبى. أو: الظاهرة: الزهد، والباطنة: الوَجْدُ. أو: الظاهرة: توفيق المجاهدة، والباطنة: تحقيقُ المشاهدة، أو: الظاهرة: وظائف النَّفْس، والباطنة: لطائف القلب، أو: الظاهرة: اشتغالُك بنفسك عن الخلق، والباطنة: اشتغالك بربَّك عن نفسك، أو: الظاهرة: طَلَبَهُ، والباطنة: وجودُه، أو: الظاهرةُ: أنْ تَصِلَ إليه، والباطنة: أن تبقى معه. هـ. ببعض المعنى.
ثم قال القشيري: { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله... } الآية: لم يتخطوا أمثالَهم، ولم يهتدوا إلى تحوِّل أحوالهم. هـ. يعني: قلدوا أسلافكم في الإقامة مع الرسوم والأشكال، والانهماك في الحظوظ، فعاقبهم ذلك عن السير والوصول. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأمّا من خالف امتثاله وأشكاله وانقاد بكليّته إلى مولاه فقد استمسك بالعروة الوثقى، كما قال تعالى: { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ... }