خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ
١٥
إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ
١٦
وَمَا ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ
١٧
-فاطر

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { يا أيها الناس أنتم الفقراءُ إِلى الله } في دقائق الأمور وجليلها، في كل لحظة لا يستغني أحد عنه طرفة عين، ولا أقل من ذلك؛ إذ لا قيام للعبد إلا به، فهو مفتقر إلى الله، إيجاداً وإمداداً. قال البيضاوي: وتعريف الفقراء؛ للمبالغة في فقرهم، كأنهم لشدة افتقارهم، وكثرة احتياجهم، هم الفقراء دون غيرهم، وأن افتقار سائر الخلق بالإضافة إلى فقرهم غير مُعتد به، ولذلك قال: { { وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } [النساء:28] قلت: ويمكن أن يكون الحصر باعتبار الحق تعالى، أي: أنتم فقراء دون خالقكم، بدليل وصله بقوله: { والله هو الغنيُّ الحميدُ }.
وقال ذو النون رضي الله عنه: الخلقُ محتاجون إليه في كل نَفَسٍ، وطرفة، ولحظة، وكيف لا ووجودهم به، وبقاؤهم به؟ { والله هو الغنيُّ } عن الأشياء كلها، { الحميدُ } أي: المحمود بكل لسان. ولم يَسمِّهم بالفقر للتحقير، بل للتعظيم؛ لأن العبد إذا أظهر فقره لسيده الغني؛ أغناه عن أشكاله وأمثاله. وذكر "الحميد" ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خَلْقه، والجواد المنعم عليهم؛ إذ ليس كلّ غنيّ نافعاً بغناه، إلا إذا كان الغنيُّ جواداً منعماً، وإذا جاد وأنعم، حمده المُنعَم عليهم.
ولَمَّا ذكر افتقارم إلى نعمة الإيجاد، ذكر افتقارهم إلى نعمة الإمداد، بقوله: { إِن يشأ يُذهبكم } أي: إن يشأ يُفنيكم كلكم، ويردكم إلى العدم؛ فإنَّ غناه بذاته، لا بكم، { ويأتِ بخلقٍ جديدٍ } يكون أطوع منكم، أو بعالَم آخر غير ما تعرفون. { وما ذلك } أي: الإفناء والإنشاء { على الله بعزيز } بممتنع. وعن ابن عباس: يخلق بعدكم مَن يعبده، لا يشرك به شيئاً. قال القشيري: فقر الخِلْقَة عام لكلِّ أحدٍ، في أول حال وجوده؛ ليُبديه وينْشيه، وفي ثاني حال بقائه؛ ليُديمَه ويُبقيَه. هـ. قلت: وإليه أشار في الحِكَم بقوله: "نعمتان ما خلا موجود عنهما، ولا بد لكل موجود منهما: نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، أنعم أولاً بالإيجاد، وثانياً بتوالي الإمداد".
الإشارة: الفقر على أربعة أقسام: فقر من الدين، وفقر من اليقين، وفقر من المال، وفقر مما سوى الله. فالأولان مذمومان، وصاحبهما موسوم بالإفلاس والهلع، ومنهما وقع التعوُّذ في الحديث. والثالث: إن صحبه الرضا فممدوح، وفيه وردت الأحاديث النبوية، وإلاَّ فمذموم، ويشمله التعوُّذ في الحديث. الرابع: هو مطلب القاصدين والعارفين، وهو الغيبة عما سوى الله، والغنى بالله، كما قال الشيخ أبو الحسن: "أسألك الفقر عما سواك، والغنى بك، حتى لا نشهد إلا إياك" وهو ينشأ عن التحقُّق بالفقر ظاهراً وباطناً؛ لأن الفقر من وصف العبد، والغنى من وصف الرب، فمَن تحقق بوصفه أمدّه الله بوصفه، "تحقق بوصفك يُمدك بوصفه، تحقق بفقرك يمدك بغناه، تحقق بذلك يمدك بعزه".
وقال القشيري: بعد كلام ـ: والفقراءُ على أقسام: فقير إلى الله، وفقير إلى شيء هو من الله؛ معلومٍ ومرسوم. ومَن افتقر إلى شيءٍ استغنى بوجود ذلك الشيء، فالفقير إلى الله هو الغني بالله، فالافتقار إلى الله لا يخلو من الاستغناء بالله. فالفقير إليه مُسْتَغْنٍ به، والمستغنى به فقيرٌ إليه. ومن شرف الفقر اقترانه بالتواضع والخشوع، ومن آفات الغنى امتزاجُه بالتكبُّر. وشَرَفُ العبد وعزه في فقره، وذُلُّه وصغاره في توهمه الغنى، وأنشدوا:

وإذا تذلّلَت الرقابُ تَقَرُّباًمنَّا إليكَ فعِزُّها في ذُلِّها

ومن شرط الفقير: ألا يملك شيئاً، ولا يملكه شيء. ومن آداب الفقير الصادق: إظهارُ التكثُّر عند وجود التقتُّر، والشكر على البلوى، والبُعد عن الشكوى. ويقال: الفقر المحمود: العيش مع الله براحة الفراغ على سَرْمَدِ الوقت، من غير استكراه شيء منه بكلِّ وجْهٍ. هـ. ملخصاً.
قال الورتجبي: فطرة الإنسانية وقعت من الغيب مضطربة متحركة إلى الأزل، بنعت الافتقار إليه، كانجذاب الحديد إلى المغناطيس؛ لأنها وقعت بنعت العشق، والعاشق مفتقر إلى معشوقه، انفعالاً، فمَن عرفه بالأزلية والأبدية يفتقر إليه افتقاراً قطعيًّا؛ لأن بقاءه لا يكون إلا به. وإذا كان كذلك صار غنيًّا بالله، متصفاً بغناه، غنيًّا به عن غيره، مفتقراً إليه. فإذا كان في محل الصحو يكون مفتقراً إليه، وإذا كان في محل السكر بقي في رؤية غناه عنه، فصار محجوباً عنه، ولا يدري. هـ.
وقال سهل رضي الله عنه: لَمَّا خلق الله الخلقَ حَكَمَ لنفسه بالغِنى، ولهم بالفقر، فمَن ادّعى الغِنى، حُجب عن الله، ومَن أظهر فقره أوصله فَقْرُه إليه. فينبغي للعبد أن يكون مفتقراً بالسرّ إليه، ومنقطعاً عن الغير إليه، حتى يكون عبوديّته لله محضة، فالعبودية هي الذل والخضوع. هـ.
وقال الواسطي: مَن استغنى بالله لا يفتقر، ومَن يتعزّز بالله لا يَذل. وقال يحيى بن معاذ: الفقرُ خير للعبد من الغِنى؛ لأن الذلة في الفقر، والكبر في الغِنى، والرجوع إلى الله بالتواضع والذلة خير من الرجوع إليه بكثرة الأعمال. وقيل: صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء.
وكيف يفتقر العبد إلى العبد وهو لا يغني عنه شيئا، قال تعالى: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِن تَدْعُ... }