خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ ٱلقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا ٱلْمُرْسَلُونَ
١٣
إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ
١٤
قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ
١٥
قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ
١٦
وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
١٧
قَالُوۤاْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٨
قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ
١٩
-يس

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: "اضرب": يكون بمعنى: اجعل، فيتعدى إلى مفعولين، و "مَثَلاً": مفعول أول، و { أصحاب } مفعول ثان، أو: بمعنى: "مثل"، من قولهم: عندي من هذا الضرب كذا، أي: من هذا المثال. و "أصحاب": بدل من "مَثَلاً"، و "إذ": بجل من "أصحاب". و "أَئِن ذُكِّرتُم": شرط، حُذف جوابه.
يقول الحق جلّ جلاله: { وَاضْرِبْ لهم } أي: لقريش { مَثلاً أصحابَ القرية } أي: واضرب لهم مثل أصحاب لهم مثل أصحاب القرية "أنطاكية" أي: اذكر لهم قصة عجيبة؛ قصة أصحاب القرية، { إِذ جاءها } أي: حين جاءها { المرسلون } رُسل عيسى عليه السلام، بعثهم دعاةً إلى الحق، إلى أهل أنطاكية. وكانوا عبدة أوثان.
{ إِذ أرسلنا }: بدل من "إذ" الأولى، أي: إذ بعثنا { إِليهم اثنين } بعثهما عيسى عليه السلام، وهما يوحنا وبولس، أو: صادقاً وصدوقاً، أو غيرهما. فلما قربا إلى المدينة، رأيا شيخاً يرعى غنيمات له، وهو حبيب النجار، فسأل عن حالهما، فقالا: نحن رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن؟ فقال: أمعكما آية؟ فقالا: نشفي المريض، ونُبرىء الأكمه والأبرص، وكان له ابن مريض منذ سنين، فمسحاه، فقام، فآمن حبيب، وفشا الخبر، فَشُفِي على أيديهما خلق كثير، فدعاهما الملك، وقال: ألنا إِلهٌ سوى آلهتنا؟ فقالا: نعم، مَن أوجدك وآلهتك، فقال: قُوما حتى أنظر في أمركما، فحبسهما.
ثم بعث عيسى عليه السلام شمعونَ، فدخل متنكراً، وعاشر حاشية الملك، حتى استأنسوا به، ورفعوا خبره إلى الملك، فاستأنس به. فقال له ذات يوم: بلغني أنك حبستَ رجلين، فهل سمعتَ قولهما؟ قال: لا، فدعاهما. فقال شمعون: مَن أرسلكما؟ فقالا: الله الذي خَلَق كل شيء، ورَزَق كل حيّ، وليس له شريك. فقال: صِفاه وأوجزا، فقالا: يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، قال: وما آيتكما؟ قالا: ما يتمنّى الملك، فدعا بغلام أكمه، فدعَوا الله، فأبصر الغلامُ، فقال شمعون للملك: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا، فيكون لك وله الشرف؟ فقال: ليس لي عنك سرٌّ، إن إلهنا لا يُبصر ولا يَسمع، ولا يضر، ولا ينفع. فقال: إِنْ قدر إلاهكما على إحياء ميّت آمنا، فدعَوا بغلام مات منذ سبعة أيام، فقام، فقال: إني دخلت في سبعة أودية من النار لِمَا مت عليه من الشرك، وأنا أُحذّركم ما أنتم عليه! فآمِنوا. قال: وفُتحت أبواب السماء، فرأيت شابّاً حسن الوجه، يشفع لهؤلاء الثلاثة، قال الملك: مَن هم؟ قال: شمعون وهذان، فتعجّب الملك. فلمّا رأى شمعون أن قوله أثّر فيه، نصَحه وآمن، وآمن قوم، ومَن لم يؤمن صاح عليهم جبريل، فهلكوا. كما سيذكره بقوله: { إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون }.
وهذا معنى قوله هنا: { فَكذَّبُوهُما } أي: فكذّب أصحابُ القرية المرسلين، { فعَزَّزْنَا }: قويناهما. وقرأ شعبة بالتخفيف، من: عزّه: غلبه، أي: فغلبنا وقهرنا { بثالثٍ } وهو شمعون، وترك ذكر المفعول به؛ لأنَّ المراد ذكر المعزّز به، وهو شمعون، وما لطف به من التدبير حتى عزّ الحق، وذلّ الباطل. وإذا كان الكلامُ مُنصبًّا إلى غرض من الأغرض جُعل سياقه له وتوجُّهه إليه كأنما سواه مرفوض. { فقالوا } أي: الثلاثة لأهلِ القرية: { إِنا إِليكم مُرْسَلُونَ } من عند عيسى، الذي هو من عند الله. وقيل: كانوا أنبياء من عند الله ـ عزّ وجل ـ أرسلهم إلى قرية، ويرجحه قول الكفرة: { ما أنتم إِلا بشرٌ مثلُنا } إذ هذه محاورة إنما تقال لمَن ادعى الرسالة، أي: ما أنتم إلا بشر، ولا مزية لكم علينا، { وما أنزلَ الرحمنُ من شيءٍ } أي: وحياً، { إِن أنتم إِلا تكْذِبون } فيما تدعون من الرسالة. { قالوا ربُّنا يعلمُ إِنا إِليكم لمرسَلون } أكَّد الثاني باللام دون الأول؛ لأن الأول مجرد إخبار، والثاني جواب عن إنكار، فيحتاج إلى زيادة تأكيد. و { ربنا يعلم } جارٍ مجرى القسم في التأكيد، وكذلك قولهم: شَهِد الله، وعَلِمَ اللهُ. { وما علينا إِلا البلاغُ المبينُ } أي: التبليغ الظاهر، المكشوف بالآيات الظاهرة الشاهدة بصحته.
{ قالوا إِنا تَطَيَّرْنا بكم } تشاءمنا بكم. وذلك أنهم كرهوا دينهم، ونفرت منه نفوسهم. وعادة الجهّال أن يتيمّنوا بكل شيء مالوا إليه، وَقَبِلَتْهُ طباعُهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه، وكرهوه، فإن أصابهم بلاء، أو نعمة، قالوا: بشؤم هذا، وبركة ذلك. وقيل: حبس عنهم المطر، فقالوا ذلك. وقيل: ظهر فيهم الجذام، وقيل: اختلفت كلماتهم. ثم قالوا لهم: { لئن لم تَنْتَهوا } عن مقالتكم هذه { لَنَرْجُمَنَّكُم } لنقتلنكم بالحجارة، أو: لنطردنّكم، أو: لنشتمنكم، { وَلَيَمَسَّنكم منا عذابٌ أليم } وليصيبنّكم منا عذاب الحريق، وهو أشد العذاب.
{ قالوا } أي: الرسل { طائِرُكُم } سبب شؤمكم { معكم } وهو الكفر، { أَئِن ذُكِّرتُم } أي: وُعظتم، ودُعيتم إلى الإسلام تطيّرتم، وقلتم ما قلتم، { بل أنتم قوم مُّسْرِفُون } مجاوزون الحد في العصيان، فمن ثَمَّ أتاكم الشؤم، لا من قِبَلِ الرسل. أو: بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم وغيّكم، حيث تتشاءمون بمَن يجب التبرُّك به من رسل الله عليهم الصلاة والسلام.
الإشارة: إذا أرسل الله إلى قلب وليٍّ وارداً أولاً، ثم شكّ فيه، وَدَفَعَهُ، ثم أرسل ثانياً وَدَفَعَه، ثم عزّزه بثالث، وجب تصديقه والعمل بما يقول، وإلا وقع في العنت وسوء الأدب؛ لأن القلب إذا صفى من الأكدار لا يتجلّى فيه إلا الحق، وإلا وجب اتهامه، حتى يتبين وجهه. وباقي الآية فيه تسلية لمن قُوبل بالتكذيب من الأولياء والصالحين. وبالله التوفيق.
ثم ذكر القصة، فقال: { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ... }