خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ
١٦
ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ
١٧
إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ
١٨
وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ
١٩
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ
٢٠

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { وقالوا } أي: كفار مكة لَمَّا سمعوا بتأخير عقابهم إلى الآخرة: { ربنا عَجِّل لنا قِطَّنَا } أي: حظّنا من العذاب الذي وعدتنا به، { قبل يوم الحساب } ولا تؤخره إلى الصيحة المذكورة. وفي القاموس: القِط ـ بالكسر ـ النصيب، والصَّك، وكتاب المحاسبة. هـ. أو: عَجِّل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها، أو: حظنا من الجنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر وعد الله المؤمنين بالجنة، فقالوا على سبيل الهزء: عَجِّل لنا نصيبنا منها. وتصدير دعائهم بالنداء للإمعان في الاستهزاء، كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة.
{ اصْبِرْ على ما يقولون } من أمثال هذه المقالات الباطلة. ثم سلاّه بما يقص عليه من خبر الأنبياء ـ عليهم السلام ـ الذين كانت بدايتهم أيام المحن، ثم جاءتهم أيام المنن، وبدأ بنبيه داود عليه السلام، فقال: { واذكر عبدَنا داودَ }، فإنه كان في أول أمره ضعيفاً، يرعى الغنم، ثم صار نبيّاً مَلِكاً، ذا الأيادي العظام. وقوله: { ذَا الأيدِ } أي: ذا القوة في الدين، والملكَ، والنبوة. يقال: فلان ذو يد وأيد وأياد، بمعنى القوة، وأياد كل شيء: ما يتقوّى به. { إِنه أوَّابٌ }: رجّاع إلى الله في كل شيء، أو: إلى مرضاة الله تعالى. وهو تعليلٌ لكونه ذا الأيد، ودليل على القوة في الدين؛ فإنه كان عليه السلام يصوم يوماً ويُفطر يوماً، وهو أشدُّ الصوم، ويقومُ نصفَ الليل، مع مكابدة سياسة النبوة والمُلك والشهود، فقد أعطى القوة في الجهتين.
{ إِنا سخَّرنا الجبالَ معه } أي: ذللناها له، تسير معه حيث يريد. ولم يقل "له"؛ لأن تسخير الجبال له عليه السلام لم يكن بطريق التفويض الكلي، كتسخير الرياح وغيرها لابنه، بل بطريق التبعية، والاقتداء به في عبادة الله تعالى. وقيل: { معه } متعلق بـ { يُسَبّحْن }، أي: سخرناها تُسبِّح معه، إما بلسان المقال، يخلق الله لها صوتاً، أو: بلسان الحال، أي: يقدس الله تعالى ويُنزهه عما لا يليق به. والجملة: حال، أي: مسبِّحات، واختيار الفعل ليدل على حدوث التسبيح من الجبال، وتجدُّده شيئاً بعد شيء، وحالاً بعد حال، { بالعَشِيّ } في طرفي النهار، والعشيّ: وقت العصر إلى الليل { والإِشراقِ }، وهو حين تُشرق الشمس، أي: تضيء، وهو وقت الضحى، وأما شروقها ـ الثلاثي؛ فطلوعها، تقول: شرقت الشمس ولمّا تُشرق، أي: طلعت ولم تضىء. وعن ابن عباس رضي الله عنه: ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية. وعنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه صلّى عند أم هانىء صلاة الضحى، وقال:
"هذه صلاة الإشراق" .
{ والطيرَ محشورةً } أي: وسخّرنا الطير مجموعة من كل ناحية. عن ابن عباس رضي الله عنه: كان إذا سبّح، جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير، فسبَّحت، فذلك حشرها. { كلٌّ له أواب } أي: كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود. ووضع الأوّاب موضع المسبّح؛ لأن الأوّاب: الكثير الرجوع إلى الله تعالى، من عادته أن يكثر ذكر الله، ويدير تسبيحه وتقديسه على لسانه. وقيل: الضمير لله، أي: كل من داود والجبال والطير أوّاب، أي: مسبّح لله تعالى ومرجّع للتسبيح، وقيل: لداود، أي: يرجع لأمره.
{ وشَدَدْنا مُلْكَه } أي: قوّيناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود. قيل: كان بيت المقدس حول محرابه ثلاثة وثلاثون ألف رجل. قال القشيري: ويقال: وشددنا ملكه بالعدل في القضية، وحسن السيرة في الرعية، أو: بدعاء المستضعفين، أو: بقوم مناصحين، كانوا يَدُلونه على ما فيه صلاح ملكه، أو: بقبوله الحق من كل أحد، أو: برجوعه إلينا في عموم الأوقات. هـ. وقال ابن عباس: أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم إلى داود، فقال المستعدي: إن هذا غصبني بقرتي، فجحد الآخر، ولم تكن له بينة، فقال داود: قُوما حتى أنظر في أمركما، فأوحى الله تعالى إلى داود في منامه: أن اقْتُل الرجل الذي استعدِيَ عليه، فتثبت داود حتى أوحى الله إليه ثلاثاً أن يقتله، أو تأتيه العقوبة من الله، فأرسل داود إلى الرجل: أن الله قد أوحى إليَّ أن أقتلك، فقال: تقتلني بغير بينة؟ فقال: نعم، والله لأنفذنَّ أمرَ الله فيك، فلما عرف الرجلُ أنه قاتله، فقال: لا تعجل عليَّ حتى أخبرك أن الله تعالى لم يأخذني بهذا الذنب، الذي هو السرقة، ولكني كنتُ قتلتُ أبا هذا غِيلة، وأخذتُ البقرة، فقتله داود، فقال الناس: إذا أذنب أحد ذنباً أظهره الله عليه؛ فقتله، فهابوه، وعظمت هيبته في القلوب هـ.
{ وآتيناه الحكمة }؛ النبوة، وكمال العلم، وإتقان العمل، والإصابة في الأمور، أو: الزبور وعلم الشرائع. وكل كلام وافق الحق فهو حكمة. { وفَصْلَ الخطاب }؛ علم القضاء وقطع الخصام، فكان لا يتتعتع في القضاء بين الناس، أو: الفصل بين الحق والباطل. والفصل: هو التمييز بين الشيئين، وقيل: الكلام البيِّن، بحيث يفهمه المخاطب بلا التباس، فصْل بمعنى مفصول، أو: الكلام البيِّن الذي يبين المراد بسرعة، فيكون بمعنى فاصل، والمراد: ما أعطاه الله من فصاحة الكلام، الذي كان يفصل به بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، في قضاياه وحكوماته، وتدابير الملك، والمشورات. وعن عليّ رضي الله عنه: "هو الْبَيِّنَةُ على المُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ" وعن الشعبي: "هو: أما بعد" فهو أول مَن تكلم بها، فإنَّ مَن تكلم في الذي له شأن يفتتح بذكر الله وتحميده، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق له الكلام، فصل بينه وبين ذكر الله بقوله: أما بعد.
الإشارة: فاصبر أيها الفقير على ما يقولون فيك، وتسلّ بمَن قبلك من أهل الخصوصية الكبرى والصغرى، ففيهم أُسوة حسنة لمَن يرجو الوصول إلى الله تعالى. وقوله تعالى: { إِنَّا سخَّرنا الجبالَ معه... } الخ. قال القشيري: كل مَن تحقق بحالة ساعده كل شيء. هـ. قلت: وفي الحِكَم: "أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوِّن، فإذا شهدت المكوِّن كانت الأكوان معك" وبالله التوفيق.
ثم ذكر امتحان داود عليه السلام، فقال: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ٱلْخَصْمِ }.