قلت: { نفسك }: مفعول ثانٍ، والأول نائب، أي: لا يكلفك الله إلا نفسك.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { فقاتل } يا محمد { في سبيل الله } ولو وَحدَكَ إن تثبطوا عن الجهاد، لا نكلفك إلا أمر نفسك، { و } لكن { حَرِّض المؤمنين } على الجهاد، إذ ما عليك إلا التحريض. فجاهدوا حتى تكون كلمة الله هي العليا. { عسى الله أن يكف } بجهادكم { بأس الذين كفروا } ويبطل دينهم الفاسد. { والله أشد بأسًا } منهم { وأشد تنكيلاً } أي: تعذيبًا لهم. وقد حقَّق الله ذلك ففتح الله على نبيه قبائل العرب، فلم يبق فيهم مشرك، ثم فتح على الصحابة سائر البلاد، وهدى الله بهم جميع العباد، إلا من فرّ من الكفار إلى شواهق الجبال.
وإنما أمرتك بالتحريض على الجهاد، لأن الدال على الخير كفاعله، وذلك كالشفاعة بين الناس ودلالتهم على إصلاح ذات البين، فمن { يشفع شفاعة حسنة } بأن ينفع المشفوع له، بدفع ضرر أو جلب نفع، ابتغاء وجه الله، { يكن له نصيب منها }، أي: حظ كبير من الثواب؛ لأنه دل المشفوع عنده على الخير، وأوصل النفع إلى المشفوع له، فله من الأجر مثل ما لهما، ومنها: الدعاء بظهر الغيب، فقد قال عليه الصلاة والسلام: " "مَن دعا لمسلمٍ بظَهرِ الغَيبِ استُجيب له، وقال له الملك: لك مِثلُ ذَلِكَ
" .
{ ومَن يشفع شفاعة سيئة }، يريد بها فسادًا بين الناس؛ كنميمة وزور وإحداث بدعة، { يكن له كِفلٌ } أي: نصيب { منها } أي: من وِزرها، وفي الحديث: " "من سنَّ سُنةَ حَسَنةٌ، فله أجرُهَا وأجرُ مَن عَمِلَ بِهَا إلى يَومِ القيامَةِ، ومن سنَّ سُنَّة سَيِّئةً فعليه وزرُهَا وَوِزرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوم القيامَةِ" . { وكان الله على كل شيء مقيتًا } أي: مقتدرًا من أقات على الشيء: إذَا قدر عليه، أو شهيدًا حافظَا فيجازي على قدر الأعمال.
ومن هذا أيضًا: السلام، فإنه سبب في ثواب الرد، لذلك ذكره الحق في سلك الدلالة على الخير فقال: { وإذا حُييتم بتحية فحيوا بأحسن منها } بأن تقولوا: وعليكم السلام والرحمة والبركة، { أو ردوها } بأن تقولوا: وعليكم السلام.
وفي الخبر: " مَن قَالَ لأخيه المسلم: السَّلامُ علَيكُم، كتب الله له عَشرُ حَسنات، فإن قال: السَّلامُ عليكُم ورحمَةُ الله، كتب الله له عِشرين حَسنة، فإن قال: وَبَرَكَاتُه، كتب الله ثَلاثين"، وكذلك لمن ردّ، فإن اقتصر على السلام، فعشر، وهكذا.. فإن ذكرَ المسلم الرحمةَ والبركةَ، قال الرادُّ: وعليكم، فقط، إذ لم يبق ما يزاد، ورد السلام واجب على الكفاية، حيث يكون مشروعًا، فلا يرد في الخطبة، وقراءة القرآن، والذكر والتفكر، والاعتبار، ونظرة الشهود والاستبصار، لأنه يفتر ويشوش، وفي الحمام إذا كانوا عراة، وفي حال الجماع والأكل والشرب وغيرها من المسائل المستثناة. وقد نظمه بعضهم، فقال:
رَدُّ السَّلآم واجبٌ إلا علىمَن في الصَّلاةِ أو بأكل شُغلا
أو شُربٍ أو قراءةٍ أو أدعِيهأو ذكرٍ أو خُطبةٍ أو تَلبِيه
والسلام من تحية أهل الإسلام، خاصٌّ بهم. لذلك استغرب الخضر ـ عليه السلام ـ سلام سَيدنا موسى عليه السلام فقال له: " وأنَّى بأرضِكَ السَّلامُ، وكذلك خليل الله إبراهيم عليه السلام، إنما أنكر الملائكة حيث سلموا عليه بتحية أهل الإسلام؛ لأنه كان بين أظهر قوم كفار، أما سلام أبي ذر على النبي صلى الله عليه وسلم بتحية أهل الإسلام، قبل أن يسلم، فلعله سمعه من بعض الصحابة قبل أن يسلم، أو إلهام من الله. والله تعالى أعلم.
{ إن الله كان على كل شيء حسيبًا } يحاسبكم على التحية وغيرها. وبالله التوفيق.
الإشارة: فجاهد أيها الإنسان نفسك في سبيل الله، لا تكلف إلا إصلاحها وتزكيتها، وحرض من يسمع قولك من المؤمنين على جهاد أنفسهم، عسى الله أن يكف عنهم القواطع والعلائق، فيتأهلون لإشراق قلوبهم بأنوار الحقائق، فإن الله لا يغلبه شيء، فمن ذكّر عبادَ الله، ودسهم إلى حضرة الله كان حظه كبيرًا عند الله. ومن دلهم على غير الله فقد غشهم وكان مُهانًا عند الله، وإذا وقع السلام على الفقراء؛ فإن كانوا سالكين غير مشتغلين بالذكر وجب عليهم الرد بأحسن، وإذا كانوا ذاكرين أو متفكرين أو سكارى في شهود الحبيب سقط عنهم السلام، وكذلك إذا سلم عليهم اختبارًا وتعنيتًا لم يجب الرد. والله تعالى أعلم.