يقول الحقّ جلّ جلاله: { إن الذين } تتوفاهم { الملائكة } أي: مَلَك الموت وأعوانه، يعني: تَقبِضُ أرواحهم، { ظالمي أنفسهم } بترك الهجرة ومرافقة الكفرة، { قالوا } أي: الملائكة في توبيخهم: { فِيمَ كنتم } أي: في أي شيء كنتم من أمر دينكم: أعلى الشك أو اليقين؟ أو: في أي بلد كنتم: في دار الكفر أو الإسلام؟ { قالوا كنا مستضعفين في الأرض } فعجزنا عن الهجرة وإظهار الدين خوفًا من المشركين، { قالوا } أي: الملائكة تكذيبًا لهم وتبكيتًا: { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } إلى قطر آخر، كما فعل المهاجرين إلى الحبشة والمدينة، لكن حبستكم أموالُكم، وعزَّت عليكم أنفسكم، { فأولئك مأواهم جهنم } لتركهم الهجرة الواجبة في ذلك الوقت، ومساعدتهم الكفار على غزو المسلمين، { وساءت مصيرًا } أي: قبحت مصيرًا جهنم التي يصيرون إليها.
نزلت في ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يُهاجروا، فخرجوا يوم بدر مع المشركين فرأوا قلةَ المسلمين، فقالوا: غرَّ هؤلاء دينُهم، فقُتِلوا، فضربت الملائكة وجوهم وأدبارهم، كما يأتي، فلا تجوز الإقامة تحت حكم الكفر مع الاستطاعة، بل تجب الهجرة، ولا عذر في المقام، وإن منعه مانعٌ فلا يكون راضيًا بحاله مطمئنَ النفس بذلك، وإلا عمَّهُ البلاءُ، كما وقع لأهل الأندلس، حتى صار أولادُهم كفارًا والعياذ بالله، وكذلك لا تجوز الإقامة في موضعٍ تغلبُ فيه المعاصي وترك الدين.
قال البيضاوي: في الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن في الرجل من إقامة دينه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " من فرَّ بدينه من أرض، ولو كان شبرًا من الأرض، استَوجَبَ الجنة، وكان رفيقَ إبراهيم ومحمد ـ عليهما الصلاة والسلام " . قلت: ويدخل فيه ـ على طريق الخصوص ـ من فرّ من موضع تكثر فيه الشهوات والعوائد، أو تكثر فيه العلائق والشواغل، إلى موضع يقلُّ فيه ذلك، طلبًا لصفاء قلبه ومعرفة ربه، بل هو أولى، ويكون رفيقاً لهما في حضرة القدس عند مليك مقتدر. والله تعالى أعلم.
ثم استثنى مَن تَحَقَّق إسلامُه وحبسه العذر، فقال: { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان } أي: المماليك والصبيان، وفيه إشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة، فإنهم إذا بلغوا وقدروا على الهجرة، فلا محيص عنها، وأن قومهم يجب أن يهاجروا بهم متى أمكنت الهجرة. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ: " كنتُ أنا أبي وأُمي ممن استثنى الله بهذه الآية ".
ثم وصفهم بقوله { لا يستطيعون حيلة } أي: قوة على ما يتوقف عليه السفر، من ركوب أو غيره، { ولا يهتدون سبيلاً } أي: لا يعرفون طريقًا، ولا يجدون دليلاً، { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم }. وعبَّر بحرف الرجاء إيذانًا بأنّ تركَ الهجرة أمرٌ خطير، حتى إن المضطر من حقه أن لا يأمن، ويترصد الفرصة، ويُعلِّقُ بها قلبه، { وكان الله غفورًا رحيمًا } فيعفو ويغفر لمن غلبه العذر. وبالله التوفيق.
الإشارة: كل من لم يتغلغل في علم الباطن، مات ظالمًا لنفسه، أي: باخسًا لها؛ لما فوَّتها من لذيذ الشهود، ومعرفة الملك المعبود، ولا يخلو باطنه من الإصرار على أمراض القلوب، التي هي من أكبر الذنوب، فإذا توفته الملائكة على هذه الحالة، قالت له: فيم كنتَ حتَّى لم تهاجر إلى من يُطهرك من العيوب، ويوصلك إلى حضرة علام الغيوب؟ فيقول: كنتُ من المستضعفين في علم اليقين، ولم أقدر على صحبة أهل عين اليقين وحق اليقين؛ حَبَسَنَي عنهم حُبُّ الأوطان، ومرافقة النساء والولدان. فيقال لهُ: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجر فيها إلى من يخلصك من الحجاب، وينفي عنك الشك والارتياب؟ فلا جرم أن مأواه سجن الأكوان، وحرمان الشهود والعيان، إلاَّ من أقر بوجود ضعفه، واضطر إلى مولاه في تخليصه من نفسه، فعسى ربه أن يعطف عليه، فيوصله إلى عارف من أوليائه، حتى يلتحق بأحبابه وأصفيائه، وما ذلك على الله بعزيز.