خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
١٠
فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ
١١
لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١٢
-الشورى

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { وما اختلفتمْ فيه من شيءٍ فحُكمه إِلى الله }، حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، بدليل قوله: { ذلكم اللهُ ربي } أي: ما خالفكم الكفار فيه من أهل الكتاب والمشركين، من أمور الدين، واختلفتم أنتم وهم، فحُكم ذلك المختلف فيه راجع إلى الله، ومُفوض إليه، وهو إثابةُ المحقّين فيه، ومعاقبة المبطلين. والمختار العموم، أي: وما اختلفتم فيه أيها الناس من أمور الدين، سواء رجع ذلك الاختلاف إلى الأصول أو الفروع، فحُكم ذلك إلى الله، وقد قال في آية أخرى: { { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ } [النساء: 59].
فكل ما اختلف فيه يُردّ إلى كتاب الله، ثم إلى سنّة رسول الله، ثم إلى الإجماع، ثم القياس، فهذه هي قواعد الشريعة، وعليها بُنيت الأحكام، فمَن خرج عنها فهو مبطل، ففي كتاب الله، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم من علم الأصول والفروع ما فيه غُنية، فإن لم يوجد نص فالإجماع أو القياس.
وقيل: ما اختلفتم فيه من العلوم، التي لا تتصل بتكليفكم، ولا طريق لكم إلى علمه، فقولوا: الله أعلم.
ثم قال: { ذلكم اللهُ ربي } أي: ذلكم العظيم الشأن؛ الله مالكي ومدبر أمري، { عليه توكلتُ } في جميع أموري، لا على غيره، { وإِليه أُنيبُ }؛ أرجع في كل ما يعرض لي، لا إلى أحد سواه. وحيث كان التوكُّل أمراً واحداً مستمراً، والإنابة متعددة، متجددة بحسب تجدُّد مؤداها، أُوثر في الأول صيغة الماضي، والثاني صيغة المضارع.
{ فاطرُ السماواتِ والأرضِ }؛ خالقهما ومظهرهما، وهو خبر ثان لذلكم، أو عن مضمر، { جعل لكم من أنفسكم }؛ من جنسكم { أزواجاً }؛ نساء { ومن الأنعام أزواجاً } أي: وجعل للأنعام من جنسها أزواجاً، أو: خلق لكم من الأنعام أصنافاً؛ ذكوراً وإناثاً، { يذرؤكم فيه } أي: يكثّركم فيما ذكر من التدبير البديع، من: الذرء، وهو البث، فجعل الناس والأنعام أزواجاً، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل، واختير لفظ "فيه" على "به"؛ لأنه جَعَل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير. والضمير في "يذرؤكم" يرجع إلى المخاطَبين والأنعام، مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على غيرهم.
وقال الهروي: { يذرؤكم فيه } أي: يكثّركم بالتزويج، كأنه قال: يذرؤكم به. هـ. وقال ابن عطية: لفظة "ذرأ" تزيد على لفظة "خلق" معنى آخر، ليس في خلق، وهو توالي طبقاته على مرّ الزمان، وقوله: "فيه" الضمير عائد على الجعل. وقال القتبي: الضمير للتزويج. هـ.
{ ليس كمثله شيءٌ } أي: ليس مثله شيء في شأن من الشؤون، التي من جملتها هذا التدبير البديع. قيل: إن كلمة التشبيه كررت لتأكيد نفي التماثل؛ لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة. قال ابن عطية: الكاف مؤكدة للتشبيه، فنفي التشبيه أوكد ما يكون، وذلك أنك تقول: زيد كعمرو، وزيد مثل عمر، فإذا أردت المبالغة التامة قلت: زيد كمثل عمرو، وجرت الآية في هذا الموضع على عرف كلام العرب، وعلى هذا المعنى شواهد كثيرة. هـ.
قال النسفي: وقيل: المثل زائد، والتقدير: ليس كهو شيء، كقوله تعالى:
{ { فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِ } [البقرة: 137]، وهذا لأن المراد نفي المثليّة، وإذا لم نجعل الكاف أو المثل زيادة كان إثبات المثل. هـ. والجواب ما تقدّم لابن عطية.
وقيل: الآية جرت على طريق الكناية، كقولهم: مثلك لا يبخل، وغيرك لا يجود، أي: أنت لا تبخل؛ لأنه إذا نفي البخل عمن هو مثله كان نفيه عنه أولى.
ثم قال تعالى: { وهو السميعُ البصيرُ }؛ سميع لجميع المسموعات بلا آذان، بصير بجميع المبصرات بلا أجفان. وذكرهما لئلا يتوهم أنه لا صفة له، كما لا مثل له، وقدّم تنزيهه عن المماثلة على وصفه بالسمع والبصر ليعلمنا أن سمعه وبصره ليس كسمعنا وبصرنا.
{ له مقاليدُ السماواتِ والأرضِ } مفاتيح خزائنها، { يبسطُ الرزقَ لمَن يشاءُ } أي: يوسعه { ويَقْدرُ } أي: يُضيق على ما تقتضيه المناسبة المبنية على الحِكَم البالغة. { إِنه بكل شيءٍ عليمٌ } لا يخفى عليه شيء، فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغي أن يفعل، على ما تقتضيه مشيئته وحكمته البالغة.
قال ابن عرفة: تضمنت هذه الآية وصفه تعالى بجميع صفات الكمال، فالقدرة في قوله: { فاطر السماوات والأرض } والوحدانية في قوله: { ليس كمثله شيء } والإرادة في قوله: { يبسط الرزق لمَن يشاء }؛ لأن تخصيص البعض بالبسط إنما هو بالإرادة. والعلم في قوله: { إنه بكل شيء عليم }، والكلام في قوله: { شرع لكم من الدين }؛ لأن المراد به الحكم الشرعي، وهو خطاب الله تعالى المعلّق بأفعال المكلفين، وخطابه كلامه. هـ. زاد في الحاشية الفاسية: يعني وكل وصف من هذه الأوصاف يستلزم الحياة، مع أنه قال: { يُحيي الموتى } والإحياء إنما يكون من الحي. هـ.
الإشارة: قوله تعالى: { وما اختلفتم فيه من شيء } قال القشيري: ويُقال إذا لم تهتدوا إلى شيء وتعرضت منهم الخواطر؛ فَدَعُوا تدبيركم والتجئوا إلى ظلِّ شهود تقديره، وانتظروا ما الذي ينبغي لكم أن تفعلوا بحُكم تيسيره. ويقال: إذا اشتغلت قلوبكم بحديث أنفسكم، فلا تدرون أبالسعادة جَرَى حُكْمُكم، أو بالشقاوة جرى اسمُكم، فَكِلوا الأمرَ فيه إلى الله، واشتغلوا في الوقت بأمر الله، دون التفكُّر فيما ليس له سبيل إلى عِلْمِه من عواقبكم. هـ.
وقوله: { فاطرُ السماوات والأرض } أي: شققهما من أسرار الغيب، ومتجلٍّ بهما وسائر الكائنات. جعل لكم في عالم الحكمة من أنفسكم أزواجاً ليقع التناسل، بعضكم من بعض، ومن الأنعام أزواجاً ليقع التناسل فيها؛ وأما بحر الجبروت فليس كمثله شيء. وقال بعض العارفين: ليت شعري هل معه شيء حتى يشبهه أو لا يشبهه، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. فقوله تعالى: { ليس كمثله شيء } أي: ليس معه شيء حتى يشبهه.
وقال الورتجبي عن الواسطي: أمور التوحيد كلها خرجت من هذه الآية؛ لأنه ما عبّر عن الحقيقة بشيء إلا والعلة مصحوبة، والعبارة منقوضة؛ لأن الحق لا يُنعت على أقداره؛ لأن كل ناعت مُشرف على المنعوت، وجلّ أن يشرف عليه مخلوق. وقال الشبلي: كل ما ميزتموه بأوهامكم، وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم، فهو مصروف إليكم، ومردود عليكم، محدث مصنوع مثلكم؛ لأن حقيقته عالية عن أن تلحقها عبارة، أو يدركها وهم، أو يحيط بها علم، كلا، كيف يحيط به علم، وقد اتفق فيه الأضداد، بقوله:
{ { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } [الحديد: 3]؟ أيّ عبارة تخبر عن حقيقة هذه الألفاظ؟ كلاّ، قصرت عنه العبارة، وخرست الألسن لقوله: { ليس كمثله شيء }. هـ.
ولما عَرَّف بذاته وصفاته، ذكر شرائعه لعباده، فقال: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً }.