خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ
٨١
سُبْحَانَ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ
٨٢
فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ
٨٣
وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ
٨٤
وَتَبَارَكَ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٨٥
وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
٨٦
-الزخرف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { قلْ } يا محمد { إن كان للرحمن ولدٌ } على زعمكم { فأنا أول العابدين } لله، كان أو لم يكن، ويسمى هذا إرخاء العنان، أي: أنا أول مَن يخضع لله، كان له ولد أو لم يكن، وقد قام البرهان على نفيه. قال معناه السدي، أو: وإن كان للرحمن ولد فأنا أول مَن يعظم ذلك الولد، وأسبقكم إلى طاعته، والانقياد إليه، كما يعظم ولد الملِك، لتعظيم أبيه؛ وهذا الكلام وارد على سبيل الفرض، والمراد: نفي الولد، وذلك أنه علَّق العبادة بكينونة الولد، وهي محال في نفسها، فكان الملعلق بها محالاً مثلها، ونظيره، قول سعيد بن جبير للحجاج - حين قال له: والله لأبدلنَّك بالدنيا ناراً تلظى -: لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلهاً غيرك. أو: إن كان للرحمن ولد في زعمكم { فأنا أول العابدين } أي: الموحِّدين لله، المكذِّبين قولكم، بإضافة الولد إليه؛ لأن مَن عَبَدَ الله، واعترف بأنه إلهه فقد دفع أن يكون له ولد. أو: إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين، أي: الجاحدين والآنفين من أن يكون له ولد، مِن عبَدِ: بكسر الباء: إذا اشتد أنفسه فهو عبَد وعابد، ومنه قول الشاعر:

متى ما يشاء ذو الوُدِّ يَصْرِمْ خَليلَهُ ويَعْبَدْ عليه لا محالةَ ظالما

وقول الحريري:

قال ما يجب على عابد الحقّ قال يحلف بالإله الخلق

أي: على جاحد الحق. وقيل هي "إنْ" النافية، أي: ما كان للرحمن ولد فأنا أول من عبد الله ووحَّده، فيوقف على "ولد" على هذا التأويل.
رُوي: أن النضر قال: إن الملائكة بنات الله، فنزلت الآية، فقال النضر: ألا ترون أنه صدّقني؛ فقال الوليد: ما صدّقك، ولكن قال: ما كان للرحمن ولداً، فأنا أوّل الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له. وسيأتي في الإشارة قول آخر.
قال القشيري: وفي الآية وأمثالها دليل على جواز حكاية قول المبتدعة فيما أخطأوا فيه في الاعتقاد، على وجه الردّ عليهم. هـ. قلت: ولا تجوز مطالقعة أقوالهم إلا لمَن رسختْ قدمه في المعرفة، والإعراض عنها أسلم.
ثم نزَّه ذاته عن اتخاذ الولد، فقال: { سبحان ربِّ السماوات والأرض ربِّ العرش عما يصفون } أي: تنزّه رب هذه العوالم العظام عن اتخاذ الولد؛ لأن اتخاذ الولد من صفة الأجسام، ولو كان جسماً ما قدر على خلو هذه الأجرام، وفي إضافة اسم الرب إلى أعظم الأجرام وأقواها، تنبيه على أنها وما فيها من المخلوقات حيث كانت تحت ملوكت ربوبيته؛ كيف يتوهم أن يكون شيء منها جزءاً منه. وفي تكرير اسم الرب تفخيم لشأن العرش.
{ فذرهم يخوضوا } في باطلهم { ويلعبوا } في دنياهم أي: حيث لم يُذعنوا لك، ولم يرجعوا عن غيهم، أعرض عنهم واتركهم في لهوهم ولعبهم، { حتى يُلاقوا يومهم الذي يُوعدون } وهو القيامة، فإنهم يومئذ يعلمون ما فعلوا، وما يفعل بهم، أو: يوم بدر، قاله عكرمة وغيره. وهذا دليل على أن ما يقولونه إنما هو خوض ولعب لا حقيقة له.
ثم ذكر انفراده بالألوهية في العالم العلوي والسفلي، فقال: { وهو الذي في السماء إِله وفي الأرض إله } أي: وهو الذي هو معبود في السماء وفي الأرض، فضمَّن "إله" معنى مألوه، أي: وهو الذي يستحق أن يُعبد فيهما. وقرأ عُمر، وأُبَي، وابن مسعود: "وهو الذي في السماء الله وفي الأرض" كقوله تعالى:
{ وَهُو اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الأَرْضِ } [الأنعام: 3]، وقد مرّ تحقيقه عبارةً وإشارةً. والراجع إلى الموصول: محذوف؛ لطول الصلة، كقولهم: ما أنا بالذي قائل لك سوءاً، والتقدير: وهو الذي هو في السماء إله، و"إله". خبر عن مضمر، ولا يصح أن يكون "إله" مبتدأ، و "في السماء" خبره؛ لخلو الصلة حينئذ عن العائد { وهو الحكيمُ } في أقواله وأفعاله { العليمُ } بما كان وما يكون، أو: الحكيم في إمهال العصاة، العليم بما يؤول أمرهم إليه، وهو كالدليل على ما قبله من التنزيه، وانفراده بالربوبية.
{ وتبارك الذي له ملكُ السماوات والأرض } أي: تقدّس وتعاظم الذي مَلَكَ ما استقر في السماوات والأرض { وما بينهما } إما على الدوام، كالهواء، أو في بعض الأوقات، كالطير، { وعنده علمُ الساعة } أي: العلم بالساعة التي فيها تقوم، { وإِليه تُرجعون } للجزاء، والالتفات للتهديد، فيمن قرأ بالخطاب. { ولا يملك الذين يدعُونَ من دونه } أي: لا تملك آلهتهم التي يدعونها { من دونه } أي: من دون الله { الشفاعةَ } كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله { إِلا مَن شَهِدَ بالحق } الذي هو التوحيد، { وهم يعلمون } بما يشهدون به عن بصيرة وإتقان وإخلاص، وهم خواص المسلمين، والملائكة. وجمع الضميرين باعتبار معنى (مَن) كما أن الإفراد أولاً باعتبار لفظها. والاستثناء: إما متصل، والموصل عام لكل ما يعبد من دون الله، أو: منقطع، على أنه خاص بالأصنام.
الإشارة: قل يا محمد: إن كان للرحمن ولد، على زعمكم في عيسى والملائكة، فأنا أولى بهذه النسبة على تقدير صحتها؛ لأني أنا أول مَن عبد الله في سابق الوجود؛ لأن أول ما ظهر نوري، فعَبَد اللّهَ سنين متطاولة؛ ثم تفرّعت منه الكائنات، ومَن سبق إلى الطاعة كان أولى بالتقريب، فلِمَ خصصتم الملائكة وعيسى بهذه النسبة، وأنا قد سبقتهم في العبادة، بل لا وجود لهم إلا من نوري، لكن لا ولد له، فأنا عبد الله ورسوله. قال جعفر الصادق: أول ما خلق الله نور محمد صلى الله عليه وسلم قبل كل شي، وأول مَن وحّد الله عزّ وجل من خلقه، دُرة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول ما جرى به القلم "لا إله إلا الله محمد رسول الله". هـ. قاله الورتجبي. ففي الآية إشارة إلى سبقيته صلى الله عليه وسلم، وأنه أول تجلٍّ من تجليات الحق، فمِن نوره انشقت أسرار الذات، وانفلقت أنوار الصفات، وامتدت من نوره جميع الكائنات.
قوله تعالى: { فذهرم يخوضوا... } الخ، كل مَن خاض في بحار التوحيد بغير برهان العيان، تصدق عليه الآية، وكذا كل مَن اشتغل بغير الله، وبغير ما يُقرب إليه؛ فهو ممن يخوض ويلعب، وفي الحديث:
"الدنيا ملعونة ملعونٌ ما فيها إلا ذِكْرَ الله، وما والاَه، أو عالماً أو متعلماً"
. وقوله تعالى: { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة... } الخ. قال القشيري: وفي الآية دليل على أن جميع المسلمين تكون شفاعتهم غداً مقبولة. هـ. أي: لأنهم في الدنيا شَهِدوا بالحق، وهو التوحيد عن علم وبصيرة، لكن في تعميمه نظر؛ لأن الاستثناء، الأصل فيه الاتصال، ولأن مَن شهد بالحق مستنثى من { الذين يدعون من دونه } - وهم الملائكة، وعيسى، وعزير، فهم الذين شَهِدُوا بالحق ممن دعوا من دون الله، وشفاعة مَن عداهم مأخذوة من أدلة أخرى.
ثم ذكر إقرار المشركين بالربوبية، فقال: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ }.