خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ
٢٤
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٢٥
-الجاثية

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { وقالوا } من غاية غيهم وضلالهم: { ما هيَ } أي: ما الحياة؛ لأنهم وُعِدُوا حياة ثانية، { إِلا حياتُنا الدنيا } التي نحن فيها، { نموت ونحيا } أي: يُصيبنا الموت والحياة فيها، وليس وراء ذلك حياة، أو: نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا، أو: يموت بعض ويحيا بعض، أو: نكون مواتاً نطفاً في الأصلاب، ونحيا بعد ذلك. وقيل: هذا كلام مَن يقول بالتناسخ، فإنه عقيدة أكثر عبدة الأوثان، أي: يموت الرجل، ثم تجعل روحه في شبح آخر، فيحيا به، وهو باطل عند أهل الإسلام، ثم قالوا: { وما يُهكنا إِلا الدهرُ } إلا مرور الزمان وهو في الأصل: مدة بقاء العالم، من: دهَرهُ: إذا غَلَبه، وكانوا يزعمون أن مرور الزمان بالليالي والأيام هو المؤثِّر في هلاك الأنفس، وينكرون ملك الموت، وقبضه الأرواحَ بأمر الله تعالى، وكانوا يُضيفون كلَّ حادثة تحدثُ إلى الدهر والزمان، كما قال شاعرهم:

أَشَابَ الصغيرَ وأفنى الكبيرَ كَرُّ الغداة ومرُّ العشيِّ

ومنه قول تُبع الأكبر، أو غيره:

منع البقاءَ تَغرُّبُ الشمس وطلوعها من حيث لا تمسي
وطلوعُها بيضاءَ صافيةً وغروبُها صفراءَ كالورْسِ
تجري على كبِد السماء كما يجري حِمام الموت بالنفْسِ
اليومَ أعلم ما يجيء به ومضى بفصل قضائه أمسِ

فإن كان تُبَّعاً المتقدم؛ فنسبة الفعل إلى الدهر مجاز، كما سيأتي، وعقيدة الموحدين ألاَّ فاعل إلا الله، فالدهر مُسخّر بأمر الله وقدرته، بل هو من أسرار الله وأنوار صفاته، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "لا تسبُّوا الدهر، فإن الله هو الدهر" وقال صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعال: يُؤذيني ابنُ آدم، يَسُبُّ الدَّهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أُقلّب الليلَ والنهارَ" فالأمور كلها بيد الله، والدهر إنما هو مظهر لعجائب القدرةن كما قال أبو علي الثقفي رضي الله عنه:

يا عاتبَ الدهر إذا نابَه لا تَلُمِ الدهرَ على غَدْرِهِ
الدهرُ مأمورٌ له آمر قد انتهى الدهر إلى أمره
كم كافر أمواله جَمَّةٌ تزداد أضعافاً على كفرِهِ؟
ومؤمنٍ ليس له دِرهمٌ يزداد إيماناً على فقرهِ؟

وقد ينسب أهل التوحيد الفعلَ إلى الدهر مجازاً، تغزُّلاً، في أشعارهم، كما قال عبد الملك بن مروان، حين ضعف حالُه:

فاستأثر الدهر الغداة بهم والدهر يرميني وما أَرْمي
يا دهر قد أكثرت فَجعتنا بِسَراتنا وقرت في العَظْمِ
وتركتنا لحماً على وَضَمٍ لو كنت تستبقي من اللحم!!
وسلبتنا ما لستَ تُعقبنا يا دهرُ ما أنصفتَ في الحُكمِ!!

قال تعالى: { وما لهم بذلك من علم } أي: ليس لهم بما ذكر من اقتصار الحياة على ما في الدنيا، وإسناد التأثير إلى الدهر، { من علم } يستند إلى عقل ولا نقل، { إِن هم إِلا يظنون } ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد، هذا معتقدهم الفاسد في أنفسهم.
{ وإِذا تُتلى عليهم آياتنا } الناطقة بالحق، الذي من جملته البعث، { بيناتٍ } واضحات الدلالة على ما نطقت به، أو مبينات له، { ما كان حُجَّتَهم } ما كان متمسكاً لهم شيء من الأشياء، { إِلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إِن كنتم صادقين } في أنَّا نُبعث بعد الموت أي: لا شبهة لهم إلا هذا القول الباطل، الذي يستحيل أن يكون من قبيل الحُجة، أي: ليس لهم حُجة إلا العناد والاستبعاد. وتسميته حُجة إما لسوقهم إياه مساق الحُجة في زعمهم، أو تهكماً بهم، كقول القائل: "تحية بينهم ضرب وجيع". قال ابن عرفة: { وإذا تتلى عليهم... } الآية، أي: إنهم مع كونهم ظانين فَهُم بحيث لو استدل لهم لما ازدادوا إلا ضلالاً، وقد تقرّر في علم الجدل أن المصمم على الشيء يصعب نقله عنه، بخلاف الظان والشك، فأتت هذه الآية نفياً لما يتوهم في هؤلاء أنهم حيث لا يقين عندهم يسهل رجوعهم، حين تظهر الحجة. هـ. ومَن نَصَبَ "حجتهم" فخبر كان، ومَن رفعه فاسمها.
الإشارة: قال القشيري: { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا... } الآية، اغترُّوا بما وجدوا عليه خَلَفَهم، وأَرْخوا في البهيمية عَنَانهم وعُمْرَهم، وأغفوا عن ذكر الفكرة قلوبَهم، فلا بالعلم استبصروا، ولا من الحقائق استمدوا، رأسُ مالهم الظن، وهم غافلون، وإذا تتلى عليهم الآيات طلبوا إحياء موتاهم، وسوف يرون ما استبعدوا. هـ.
ثم قرر البعث الذي أنكروه، فقال: { قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ }.