خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ
١٢
-الحجرات

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جلّ جلاله: { يا أيها الذين آمنوا اجتنِبوا كثيراً من الظن } أي: كونوا في جانب منه، يقال: جنَّبه الشرّ إذا أبعده عنه، أي: جعله في جانب منه، و"جنّب" يتعدى إلى مفعولين، قال تعالى: { وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } [إبراهيم: 35]، ومطاوعُه، اجتنب، ينقص مفعولاً، وإبهام "الكثير" لإيجاب التأمُّل في كل ظن، حتى يعلم من أي قبيل هو، فإنَّ مِن الظن ما يجب اتباعُه؛ كالظن فيما لا قاطع فيه من العمليات، وحسن الظن بالله تعالى، ومنه ما يُحرم، وهو ما يُوجب نقصاً بالإلهيات والنبوات، وحيث يخالفه قاطع، وظن السوء بالمؤمنين، ومنه ما يُباح، كأمور المعاش.
{ إِنَّ بعض الظن إِثمٌ } تعليل للأمر بالاجتناب، قال الزجاج: هو ظنّك بأهل الخير سوءاً، فأما أهل الفسق فلنا أن نظنّ بهم مثل الذي ظهر عليهم، وقيل المعنى: اجتنبوا اجتناباً كثيراً من الظن، وتحرّزوا منه، إن بعض الظن إثم، وأَوْلى كثيرُه، والإثم: الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:
"إياكم والظن، فإن الظنَّ أكذبُ الحديث" ، فالواجب ألاَّ يعتمد على مجرد الظن، فيعمل به، أو يتكلم بحسبه.
قال ابن عطية: وما زال أولو العزم يحترسون من سوء الظن، ويجتنبون ذرائعه. قال النووي: واعلم أن سوء الظن حرام مثل القول، فكما يحرم أن تحدّث غيرَك بمساوئ إنسان؛ يحرم أن تُحدِّث نفسك بذلك، وتسيء الظن به، والمراد: عقدُ القلب وحكمُه على غيره بالسوء، فأما الخواطرُ، وحديثُ النفس، إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه، فمعفوٌّ عنه باتفاق؛ لأنه لا اختيارَ له في وقوعه، ولا طريق له إلى الانفكاك عنه. هـ. وقال في التمهيد: وقد ثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"حرّم الله من المؤمن: دمَه ومالَه وعِرضَه، وألا يُظنَّ به إلا الخير" . هـ. ونقل أيضاً أن عُمر بن عبد العزيز كان إذا ذُكر عنده رجل بفضل أو صلاح، قال: كيف هو إذا ذُكر عنده إخوانُه؟ فإن قالوا: ينتقص منهم، وينال منهم، قال عمر: ليس هو كما تقولون، وإن قالوا: إنه يذكُرُ منهم جميلاً، ويُحسن الثناء عيلهم، قال: هو كما تقولون إن شاء الله. هـ. وفي الحديث أيضاً: "خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير، حُسْن الظنِّ بالله، وحُسْن الظن بعباد الله، وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر: سوء الظن بالله، وسوء الظن بعباد الله" .
{ ولا تجسَّسُوا } لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم، يقال: تجسّس الأمر: إذا تطلّبه وبحث عنه، تَفعلٌ من: الجسّ. وعن مجاهد: خُذوا ما ظهر ودَعوا ما ستر الله. وقال سهل: لا تبحثوا عن طلب ما ستر الله على عباده، وفي الحديث: "لا تتبعوا عورات المسلمين؛ فإنَّ مَن تتبَّع عورات المسلمين تتبَّع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته" .
قال ابن عرفة: مَن هو مستور الحال فلا يحلّ التجسُّس عليه، ومَن اشتهر بشرب خمر ونحوه فالتجسُّس عليه مطلوب أو واجب. هـ. قلت: معناه: التجسُّس عليه بالشم ونحوه؛ ليُقام عليه الحد، لا دخول داره لينظر ما فيها من الخمر ونحوه، فإنه منهي عنه، وأمَّا فعل عمر رضي الله عنه فحالٌ غالبة، يقتصر عليها في محلها، وانظر الثعلبي، فقد ذكر عن عمر رضي الله عنه أنه فعل من ذلك أموراً، ومجملها ما ذكرنا.
وقرئ بالحاء، من "الحس" الذي هو أثر الجس وغايته، وقيل: التجسُّس – بالجيم – يكون بالسؤال، وبالحاء يكون بالاطلاع والنظر، وفي الإحياء: التجسُّس – أي: بالجيم – في تطلُّع الأخبار، والتحسُّس بالمراقبة بالعين. هـ. وقال بعضهم: التجسُّس – بالجيم – في الشر، وبالحاء في الخير، وقد يتداخلان.
والحاصل: أنه يجب ترك البحث عن أخبار الناس، والتماس المعاذر، حتى يُحسن الظن بالجميع، فإنَّ التجسُّس هو السبب في الوقوع في الغيبة، ولذلك قدّمه الحق – تغالى – عن النهي عن الغيبة، حيث قال: { ولا يغتب بعضُكم بعضاً } أي: لا يذكر بعضُكم بعضاً بسوء. فالغيبة: الذكرُ بالعيب في ظهر الغيب، من الاغتياب، كالغِيْلَةِ من الاغتيال. وسئل صلى الله عليه وسلم عن الغيبة، فقال:
"ذِكْرُك أخاك بما يكره، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بَهَتَّه" .
وعن معاذ: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذَكَر القومُ رجلاً: فقالوا: لا يأكل إلا إذا أُطعم، ولا يرحل إلا إذا رُحِّل، فما أضعفه! فقال عليه السلام: اغتبتم أخاكم، فقالوا: يا رسول الله، أوَ غيبة أن يُحدَّث بما فيه؟ قال: فَحَسْبُكم غيبةً أن تُحدِّثوا عن أخيكم بما فيه" . قال أبو هريرة: "قام رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم فرأَوْا في قيامه عَجْزاً، فقالوا: يا رسول الله، ما أعجز فلاناً! فقال عليه السلام: أَكَلْتُم لحْمَ أخيكم واغتبتموه" .
قال النووي: الغيبة: كلّ ما أفهمت به غيرَك نقصان مسلم عاقل، وهو حرام. هـ. قوله: ما أفهمت... الخ، يتناول اللفظ الصريح والكناية والرمزَ والتعريضَ والإشارة بالعين والرأس، والتحكية بأن يفعل مثلَه، كالتعارج، أو يحكي كلامَه على هيئته ليُضحك غيره، فهذا كله حرام، إن فهَم المخاطَب تعيين الشخص المغتاب، وإلا فلا بأس، والله تعالى أعلم. ولا فرق بين غيبة الحي والميت، لما ورد: "مَن شتمَ ميتاً أو اغتابه فكأنما شتم ألف نبي، ومَن اغتابه فكأنما اغتاب ألفَ ملَك، وأحبط الله له عمل سبعين سنة، ووضع على قدمه سبعين كيةً من نار".
والسامع للغيبة كالمغتاب، إلاَّ أن يُغَير أو يقوم، وورد عن الشيخ أبي المواهب التونسي الشاذلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
"فإن كان ولا بد من سماعك غيبة الناس – أي: وقع منك – فاقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين، واهدِ ثوابها للمغتاب؛ فإن الله يُرضيه عنك بذلك" .هـ.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: الغيبة إدامُ كلابِ الناس. هـ. وتشبيههم بالكلاب في التمزيق والتخريق، فهم يُمزقون أعراض الناس، كالكلاب على الجيفة، لا يطيب لهم مجلسٌ إلا بذكر عيوب الناس. وفي الحديث:
"رأيت ليلة أُسري بي رجالاً لهم أظفار من نحاس، يَخْمشُون وجوههم ولحومَهم، فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" .
{ أيُحب أحدُكم أن يأكلَ لَحْمَ أخيه مَيْتاً } هذا تمثيل وتصوير لما ينالُه المغتاب من عِرضِ المغتابِ على أفحش وجه. وفيه مبالغات، منها: الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها: فعلُ ما هو الغاية في الكراهية موصولاً بالمحبة، ومنها: إسناد الفعل إلى { أحدكم } إشعاراً بأنَّ أحداً مِن الأحدين لا يُحبُّ ذلك، ومنها: أنها لم يَقْتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم مطلق الإنسان، بجعله أخاً للآكل، ومنها: أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخر حتى جعله ميتاً. وعن قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة مُدَوّدة أن تأكل منها: كذلك فاكْرَه لحم أخيك. هـ.
ولمَّا قررهم بأن أحداً منهم لا يُحب أكل جيفة أخيه عقَّب ذلك بقوله: { فكَرِهْتُموه } أي: وحيث كان الأمر كما ذُكر فقد كرهتموه، فكما تحققت كراهتُكم له باستقامة العقل فاكْرَهوا ما هو نظيره باستقامة الدين.
{ واتقوا الله } في ترك ما أمِرتم باجتنابه، والندم على ما صدَر منكم منه، فإنكم إن اتقتيم وتُبتم تقبَّل الله توبتكم، وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين، { إِنَّ الله توّاب رحيم } مبالغ في قبول التوبة، وإفاضة الرحمة، حيث جعل التائب كمَن لا ذنب له، ولم يخص تائباً دون تائب، بل يعم الجميع، وإن كثرت ذنوبه.
رُوي أنَّ سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة، ويُصلح طعامَهما، فنام عن شأنه يوماً، فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"ما عندي شيء" فأخبرهما سلمان، فقالا: لو بعثناه إلى بئر سَميحةٍ لَغار مَاؤُها. فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: "مَا لي أَرى حُمرَةَ اللَّحم في أَفْواهِكُما؟" فقالا: ما تناولنا لَحْماً، فقال: "إنكما قد اغْتَبتُما، مَن اغتاب مسلماً فقد أكل لحمه" ، ثم قرأ الآية.
وقيل: غيبة الخلق إنما تكون بالغيبة عن الحق. هـ. قاله النسفي. قال بعضهم والغيبة صاعقة الدين فمَن أراد أن يُفرّق حسناته يميناً وشمالاً؛ فليغتب الناس. وقيل: مثلُ صاحب الغيبة مثل مَن نصب منجنيقاً فهو يرمي به حسناته يميناً وشمالاً، شرقاً وغرباً. هـ. والأحاديث والحكايات في ذم الغيبة كثيرة، نجانا الله منها بحفظه ورعايته. وهل هي من الكبائر أو من الصغائر؟ خلاف، رجّح بعَضٌ أنها من الصغائر؛ لعموم البلوى بها، قال بعضهم: هي فاكهةُ القراء، ومراتعُ النساء، وبساتينُ الملوك، ومَزبلةُ المتقين، وإدام كلام الناس. هـ.
الإشارة: مَن نظر الناسَ بعين الجمع عذَرهم فيما يصدرُ منهم، وحسَّن الظنَّ فيما لم يصدر منهم، وعظَّم الجميع، ومَن نظرهم بعين الفرق طال خصمه معهم فيما فَعلوا، وساء ظنُّه بهم فيما لم يفعلوا، وصغَّرهم حيث لم يرَ منهم ما لا يُعجبه، فالسلامةُ: النظر إليهم بعين الجمع، وإقامةُ الحقوق عليهم في مقام الفرق، قياماً بالحكمة في عين القدرة. وفي الحديث:
"ثلاثة دبّت لهذه الأمة: الظن، والطيرة، والحسد، قيل: فما النجاة؟ قال: إذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ" أو كما قال عليه السلام. قال القشيري: النفسُ لا تُصدَّق، والقلب لا يُكذَّب، والتمييزُ بينهما مُشْكِلٌ، ومَن بَقِيَتْ عليه من حظوظه بقيةٌ – وإن قلّت – فليس له أن يَدَّعي بيانَ القلب – أي: استفتاءه – بل يتهمَ نفسه ما دام عليه شيء من نفسه، ويجب أن يتهم نَفْسَه في كل ما يقع له من نقصان غيره، هذا أمير المؤمنين عمرُ قال وهو يخطب الناس: "كُلّ الناسِ أفقه من عمر حتى النساء". هـ.
قوله تعالى: { ولا تجسسوا... } الخ، التجسُّس عن أخبار الناس من علامة الإفلاس، قال القشيري: العارف لا يتفرّغ من شهود الحقِّ إلى شهود الخلق، فكيف يتفرّغ إلى التجسُّس عن أحوالهم؟! لأن مَن اشتغل بنفسه لا يتفرَغ إلى الخلق، ومَن اشتغل بالحق لا يتفرّغ لنفسه، فكيف إلى غيره؟! هـ.
قوله تعالى: { ولا يغتب بعضُكم بعضاً } ليست الغيبة خاصة باللسان في حق الخاصة، بل تكون أيضاً بالقلب، وحديث النفس، فيُعاتبون عليها كما تُعاتَب العامةُ على غيبة اللسان، وتذكّر قضية الجنيد مع الفقير الذي رآه يسأل، وهي مشهورة، وتقدّمت حكاية أبي سعيد الخراز، ونقل الكواشي عن أبي عثمان: أنَّ مَن وجد في قلبه غيبةً لأخيه، ولم يعمل في صرف ذلك عن قلبه بالدعاء له خاصة، والتضرُّع إلى الله بأن يُخلِّصَه منه؛ أخاف أن يبتليه الله في نفسه بتلك المعايب. هـ. قال القشيري: وعزيزٌ رؤيةُ مَن لا يغتاب أحداً بين يديك. هـ. وقد أبيحت الغيبة في أمور معلومة، منها: التحرُّز منه لئلا يقع الاغترار بكلامه أو صحبته، والترك أسلم وأنجى.
ثم نهى عن الافتخار بالأنساب، فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ }.