خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٢
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١٣
-الأنعام

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: جملة { ليجمعنّكم }: مقطوعة، جواب لقسَم محذوف، وقيل: بدل من الرحمة، وهو ضعيف؛ لدخول النون الثقيلة في غير موضعها. و "إلى": هنا، للغاية، كما تقول: جمعتُ القوم إلى داري. وقيل: بمعنى " في" و { الذين خسروا }: مبتدأ، وجملة: { فهم لا يؤمنون }: خبر، و { له ما سكن }: عطف على { لله }، وهو إما من السكنى فلا حذف، أو من السكون، فيكون حذف المعطوف. أي: ما سكن وتحرَّك.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { قل } للمشركين يا محمد: { لمن ما في السماوات والأرض } خلقًا وملكًا وعبيدًا؟. { قل } لهم هو: { لله } لا لغيره والقصد بالآية: إقامة البرهان على التوحيد وإبطال الشرك. وجاء ذلك بصيغة الاستفهام؛ لإقامة الحجة على الكفار، فسأل أولاً، ثم أجاب عن سؤاله بنفسه؛ لأنَّ الكفار يُوافقون على ذلك ضرورة، فثبت أن الإله الحق هو الذي له ما في السماوات والأرض، وإنما يحسُن أن يكون السائلُ مجيبًا إذا عُلِم أن خَصمَه لا يخالفُه في الجواب الذي يقيم به الحجة عليه.
ثم دعاهم إلى الإيمان والتوبة بتلطُّف وإحسان فقال: { كتب على نفسه الرحمة }؛
{ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوَءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الأنعام:54] كما في الآية الأخرى، والكتابةُ هنا عبارة عن القضاء السابق، وقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " إنَّ اللهَ كتَبَ كتابًا قبلَ أن يَخلُقَ السَّماواتِ والإرضَ فَهُوَ عِندَه وفيه: أنَّ رَحمَتِي سبقَت غَضَبي، وفي رواية: تَغّلِبُ غضبي" .
قال البيضاوي: { كتب على نفسه الرحمة } أي: التزمها تفضلاً وإحسانًا، والمراد بالرحمة: ما يعُمُّ الدارين، ومن ذلك: الهداية إلى معرفته، والعلم بتوحيده، بنصب الأدلة، وإنزال الكتب والإمهال على الكفر. هـ.
ثم ذكر محل ظهور هذه الرحمة، فقال: واللهِ { ليجمعنّكم إلى يوم القيامة } أي: ليجمعنكم من القبور مبعوثين إلى يوم القيامة فيُجازي أهل التوبة والإيمان، ويعاقب أهل الشرك والكفران، { لا ريب } في ذلك اليوم، أو في ذلك الجمع، فيظهر أهل الخسران من أهل الإحسان، ولذلك قال: { الذين خسروا أنفسهم } بتضييع رأس مالهم، وهو النظر الصحيح الموجِب للإيمان والتوحيد { فهم لا يؤمنون } حتى أدركهم الموت؛ فلا خسران أعظم من ذلك. ودخلت الفاء في الخبر؛ للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبّب عن خسرانهم؛ فإن إبطال النظر، والانهماك في التقليد واتباع الوهم، أدَّى بهم إلى الإصرار على الكفر، والامتناع من الإيمان إلى الممات. فخسروا أولاً بتضييع النظر، فتسبب عنه عدم الإيمان.
ثم تمّم جوابه فقال: { وله ما سكن } أي: قل لهم: ما في السماوات والأرض لله، وله أيضًا ما سكن { في الليل والنهار } أي: ما استقر فيهما وما اشتملنا عليه، أو ما سكن فيهما وتحرك، { وهو السميع } لكل مسموع، { العليم } بكل معلوم؛ فلا يخفى عليه شيء في الليل والنهار، في جميع الأقطار.
الإشارة: إذا علم العبد أن الخلق كلهم في قبضة الله، وأمورهم كلها بيد الله، أحاط بهم علمًا وسمعًا وبصرًا، لم يبق له على أحد عتاب، ولا ترتيبُ خطأ ولا صواب، إلاَّ ما أمرت به الشريعةُ على ظاهر اللسان. بل شأنه أن ينظر إلى ما يفعل المالك في ملكه. فيتلقاه بالقبول والرضى، وفي الحِكَم: "ما تَركَ من الجهل شيئًا مَن أراد أن يُظهر في الوقت غيرَ ما أظهره الله فيه". هذا شأن أهل التوحيد؛ يدوُرون مع رياح الأقدار حيثما دارت، غيرَ أنهم يتحنَّنون بقلوبهم إلى رحمة الكريم المنان، وينهضون بهمتهم إلى مَظانّ السعادة والغفران، ويرجون منه الجمع عليه في روح وريحان، وجنة ورضوان، بمحض فضل منه وإحسان. جعَلَنَا الله منهم بفضله وكرمه. آمين.
ثم أقام الحجة على أهل الشرك، فقال: { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً }.