البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
قلت: { كما خلقناكم }: بدل من { فُرَادى }، أو حال ثانية، و { لقد تقطع بينكم }؛ من قرأ بالرفع، فهو فاعل، أي: تقطع وصلُكم، ومن قرأ بالنصب، فظرف، على إضمار الفاعل، أي: تقطع الاتصال بينكم، أو على حذف الموصول؛ لقد تقطع ما بينكم.
يقول الحقّ جلَ جلاله: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا } فزعم أنه يوحى إليه، كمسيلمة الكذاب والأسود العَنسي، أو: غيَّر الدين، كعَمرو بن لحي وأمثاله { أو قال أُوحي إليَّ ولم يُوحَ إليه شيء } كابن أبي سَرح ومن تقدم، إلا من تاب، كابن أبي سرح. { ومَن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } كالذين قالوا: { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلِ هَذَا } [الأنفَال:31] كالنضر بن الحارث وأشباهه.
{ ولو ترى إذ الظالمون } من اليهود والكذابين والمستهزئين، حين يكونون { في غمرات الموت }: شدائده { والملائكة باسطو أيديهم } لقبض أرواحهم، أو بالضرب لوجوههم وأدبارهم، قائلين لهم: { أخرجوا أنفسكم } من أجسادكم؛ تغليظًا عليهم، { اليوم } وما بعده { تُجزون عذاب الهون } أي: الهوان، يريد العذاب المتضمن للشدة والهوان، وإضافته للهوان لتمكنه فيه. وذلك العذاب { بما كنتم تقولون على الله غير الحق }، كادعاء النبوة كذبًا، وادعاء الولد والشريك لله، { وكنتم عن آياته تستكبرون } فلا تستمعون لها، ولا تؤمنون بها، فلو أبصرت حالهم ذلك الوقت لرأيت أمرًا فظيعًا وهولاً شنيعًا.
يقول الحق سبحانه لهم: { ولقد جئتمونا } للحساب والجزاء، { فُرادى }. متفرَّدين عن الأعوان والأوثان، أو عن الأموال والأولاد، وهذا أولى بقوله: { كما خلقناكم أول مرة } أي: على الهيئة التي وُلدتم عليها من الانفراد والتجريد حفُاة عُراة غُرلاً { وتركتم ما خولناكم } أي: تفضَّلنا به عليكم من الدنيا فشُغلتم به عن الآخرة، { وراء ظهوركم }، فلم تقدموا منه شيئًا، ولم تحملوا معكم منه نقيرًا، { وما نرى معكم شفعاءكم } أي: أصنامكم { الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } أي: أنهم شركاء مع الله في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم، { لقد تقطَّع بينكم } أي: تفرَّق وصلُكم وتشتت شملكم، { وضَلَّ } أي: غاب { عنكم ما كنتم تزعمون } أنهم شفعاؤكم، أو لا بعث ولا حساب الظهور كذبكم.
الإشارة: كل من ادعى حالاً أو مقامًا، يعلم من نفسه أنه لم يُدركه ولم يتحقق به، فالآية تَجُرُّ ذيلَها عليه. وفي قوله: { ولقد جِئتُمُونَا فرادى... } الخ، إشارة إلى أن الدخول على الله والوصول إلى حضرته، لا يكون إلا بعد قطع العلائق والعوائق والشواغل كلها، وتحقيق التجريد ظاهرًا وباطنًا؛ إذًا لا تتحقق الفردانية إلا بهذا.
وقال الورتجبي: ولي هنا لطيفةٌ أخرى، أي: ولقد جئتمونا موحدِّين بوحدانيتي شاهدين بشهادتي، بوصف الكشف والخطاب، كما جئتمونا من العدَم في بدء الأمر، حين عَرَّفتُكم نفسي بقولي: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى } [الأعرَاف:172] بلا إشارة التشبيه وغلط التعطيل، كما وصفهم نبيه صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ مَولُد يُولَدُ عَلَى الفِطرَةِ " ، يعني: على فطرة الأزل بلزوم سمة العبودية بلا علة الاكتساب، عند سبق الإرادة. انتهى. قلت: وحاصل كلامه، أن مجيئهم فُرادى، كناية عن دخولهم الحضرة القدسية بعد تقديس الأرواح وتطهيرها، حتى رجعت لأهلها، كما خلقها أول مرة، أعني: مقدسة من شواهد الحس، مُطهرة من لُوثِ الأغيار، على فطرة الأزل، فشبه مجيئها الثاني بعد التطهير ببروزها الأول، حين كانت على أصل التطهير، كأنه قال: ولقد جئتمونا فرادى من الحس وشهود الغير كما خلقناكم كذلك في أول الأمر. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: { وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } أي: من العلوم الرسمية، والطاعات البدنية والكرامات الحسية، قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي العارف: كنت أعرف أربعة عشر عِلمًا، فلما علمت علم الحقيقة شرطت ذلك كله، فلم يبق لي إلا التفسير والحديث والمنطق. هـ. وقوله تعالى: { وما نرى معكم شفعاءكم } إشارة إلى أنهم دخلوا من باب الكرم لا من باب العمل. والله تعالى أعلم.
ثم شرع يذكر دلائل توحيده وتعريف ذاته، فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ }.