قلت: { من ظهورهم }: بدل من { بني آدم }، أي: من ظهور بني آدم، و { ذريتهم }: مفعول به، و { بلى }: حرف جواب، يُجاب بها عن الهمزة إذا دخلت على منفي، فخرجت عن الاستفهام إلى التقرير، وهو حمل المخاطب على الإقرار بما بعد النفي، نحو: { { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [الشّرح:1]، فيجاب ببلى، أي: شرحت، وكذا نظائرها، ومنه: { إلست بربكم... } الآية.
وقد يجاب بها الاستفهام المجرد عن النفي، كما في الحديث: " أتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الجَنَّةِ؟ قالوا: بلى" . ولكنه قليل، فلا يُقاس عليه، بل يوقف على ما سمع، والكثر: أنها جواب للنفي، ومعناها: إثبات ما نفي، ورفع النفي، لا إثباته وتقريره، بخلاف "نعم"؛ فإنها تقرر ما قبلها من إثبات أو نفي، ولذا قال ابن عباس: (ولو قالوا: نعم، لكفروا)، وقد تقدم الفرق بينهما في سورة البقرة، ثم الكثير: مراعاة صورة النفي، فيجاب ببلى، وقد ينظر للمعنى وما يفيده الاستفهام الإنكاري من نفيه للنفي، فيصير الكلام إيجابًا، فيصح الجواب بنعم في الجملة، لكن لمَّا كان محتملاً امتنع في الآية: انظر المغني. وقوله: { أن تقولوا }: مفعول من أجله.
يقول الحقّ جلّ جلاله: { و } اذكروا { إِذْ أخذ ربُّك من بني آدم من ظهورهم }؛ من ظهور بني آدم { ذريَّتهم }؛ وذلك أن الله تعالى لَمَّا خلق آدم، وأهبطه إلى الأرض، أخرج من صلبه نسيم بنيه، بعضهم من صلب بعض، على نحو ما يتوالدون، قرنًا بعد قرن كالذر، وكان آدم بنَعمان، وهو جبل يواجه عرفة، وقال لهم حين أخرجهم: { ألستُ بربكم }؟ فأقروا كلهم، و { قالوا بلى } أنت ربنا، { شهِدْنا } بذلك على أنفسنا، لأن الأرواح حينئذٍ كانت كلها على الفطرة، علاّمة دَرَّاكة، فلما ركبت في هذا القالب نسيت الشهادة، فبعث اللهُ الأنبياءَ والرسل يُذكِّرون الناس ذلك العهد، فمن أقرّ به نجا، ومن أنكره هلك، ويحتمل أن يكون ذلك من باب التمثيل، وأن أخذ الذرية من الظهر عبارة عن أيجادهم في الدنيا، وأما إشهادهم فمعناه: أن الله نصب لبني آدم الأدلة على ربوبيته، وشهدت بها عقولهم، فكأنه أشهدهم على أنفسهم، وقال: { ألست بربكم }؟ وكأنهم قالوا بلسان الحال: أنت ربنا.
والأول هو الصحيح؛ لتواتر الأخبار به، فقوله: { شَهِدنا }: هو من تمام الجواب، فهو تحقيق لربوبيته وأداء لشهادتهم بذلك، فينبغي أن يوقف عليه، وقيل: إنَّ { شهدنا }: من قول الله أو الملائكة، فيوقف على { بلى }، لكنه ضعيف.
ثم ذكر حكمة هذا الأخذ، فقال: { إن تقولوا } أي: فعلنا ذلك كراهة أن تقولوا { يوم القيامة إِنا كنا عن هذا غافلين }، أو كراهية أن تقولوا: { إنما أشرك آباؤنا من قبلُ وكنا ذرية من بعدهم } فاقتدينا بهم، { أفتُهلكنا بما فعل المبطِلُون }، يعني: آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك، ولا بد من حذف كلام هنا لتتم الححجة، والتقدير: أخذنا ذلك العهد في عالم الأرواح، وبعثنا الرسل يجددونه في عالم الأشباح، كراهة أن تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين، ويدل على هذا قوله تعالى: { { وَمَا كُنَّا مُعَذِبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً... } [الإسرَاء:15] الآية. وقوله: { { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ } [النساء:165]، ولا يكفي مجرد الإشهاد الروحاني في قيام الحجة؛ لأن ذلك العهد نسيته الأرواح حين دخلت في عالم الأشباح، فلا تهتدي إليه إلا بدليل يُذكرها ذلك.
قال البيضاوي: والمقصود من إيراد هذا الكلام ها هنا: إلزام اليهود مقتضى الميثاق العام، بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية، ومنعهم من التقليد، وحملهم على النظر والاستدلال، كما قال تعالى: { وكذلك نفصل الآيات } الدالة على وحدانيتنا سمعاً وعقلاً، { ولعلهم يرجعون } عن التقليد واتباع الباطل.
الإشارة: أَخَذَ الحقّ جلّ جلاله العهد على الأرواح أن تعرفه وتُوحده مرتين، أحدهما: قبل ظهور الكائنات، والثاني: بعد ظهورها. والأول أخذه عليها في معرفة الربوبية، والثاني تجديدًا له مع القيام بآداب العبودية. قال بعضهم: أخذ الأول على الأرواح يوم المقادير، وذلك قبل السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم أخذ الثاني على النفوس بعد ظهورها في عالم الأشباح، كما نبهت عليه الآية والأحاديث.
وقال ابن الفارض في تائيته:
وَسَابِقِ عَهْدٍ لَمْ يَحُل مُذ عَهِدتُهُ ولا حِقِ عَقدٍ جَلَّ عَنْ حَلِّ فتْرَهِ
قال القاشاني: أراد بالعهد السابق: ما أخذه الله على الأرواح والإنسانية المستخرجة من صلب الروح الأعضم، الذي هو آدم الكبير، في صور المثل، قبل تعلقها بالأشباح، وهو عقد المحبة بين الرب والمربوب، في قوله سبحانه: { وإذ أخذ ربك... } الآية. وبالعهد اللاحق: ما أخذه عليهم بواسطة الأنبياء، من عقد الإسلام بعد التعلق بالأبدان، وهو توكيدٌ للعهد الأول، وتوثيقه بالتزام أحكام الربوبية والتزامها. هـ. وقال في الحاشية: كلام ابن الفارض ينظر إلى العهد الأول، الروحاني، وكلام غيره ينظر إلى الثاني النفساني، وهو ظاهر الآية. هـ. قلت: وفيه نظر، فإن كلام ابن الفارض مشتمل على العهدين معًا، الروحاني في الشطر الأولى، والنفساني في الشطر الثاني.
والحاصل مما تقدم: أن العهد أخذ على الأرواح ثلاث مرات، أحدها: حين استخرجت من صلب الروح الأعظم الذي هو آدم الكبير، وهو معنى القبضة النورانية، التي آخذت من عالم الجبروت. والثاني: حينن استخرجت من صلب آدم الأصغر، كالذر، والثالث: حيث دخلت في عالم الأشباح، على ألسنة الرسل، ومن ناب عنهم، فالمذكور في الآية هو الثاني، وهو أحسن من حَملِ القاشاني الآية على الأول.
فالحاصل: أن الأخذ الأول كان على الأرواح مجردة عن مادة التطوير والتمثيل، بإقرارها إقرار النفوس، لا إقرار الألسنة، والأخذ الثاني كان على الأرواح بعد خروجها من الوجود العلمي إلى الوجود العيني، فتطورت الأرواح بصفاتها الذاتية، من سمع وبصر ولسان وغيرها، في عالم المثال، بصور مقالية؛ لتُبصر بها ظهور الرب، وتسمع خطابه، وتجيب سؤاله، بإقرارها حينئذٍ إقرار الألسنة، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية. وأما العهد الذي أخذه بواسطة الأنبياء في ظهور عالم الأشباح فإنما هو تذكير للعهدين وتجديد لهما وهو الذي تقوم به الحجة عليها، فلا بد من انضمامه إِلى الأوَّلَين في قيام الحجة، كما تقدم.
فالموجدات ثلاث: علمي، ثم خيالي مثالي، ثم نوعي حسي. فَأُخِذَ على كل واحد عهد؛ من الأَوَّلَيْنِ بلا واسطة، والثالث بواسطة الرسل. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وبال من نقض هذا العهد، مع تمكنه من العلم به، فقال: { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِيۤ ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا }.