خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
١٠٧
لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ
١٠٨
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
١٠٩
لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
١١٠
-التوبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: قرأ نافع وابن عامر: بغير واو؛ مبتدأ حذف خبره، أي: معذبون، أو في: (لا تقم فيه أبداً)، أو في قوله: (لا يزال)، أو صفة لقوله: (وآخرون)، على من يقول: إن "المُرْجَوْن" غير الثلاثة المخلفين، بل في المنافقين الذين كانوا معرضين للتوبة مع بنيانهم مسجد الضرار. ومن قرأ بالواو فعطف على قوله: (آخرون)، أو مبتدأ حُذف خبره، أي: وممن وصفنا: الذين، أو منصوب على الذم، و(ضراراً) وما بعده: علة، وأصل (هارٍ): هائر، فأخرت الهمزة، ثم قلبت ياء، ثم حذفت؛ لالتقاء الساكنين.
يقول الحق جل جلاله: { و } منهم { الذين اتخذوا مسجداً ضِراراً وكُفراً } أي: لأجل المضارة بالمؤمنين والكفر الذي أسروه، وهو تعظيم أبي عامر الكافر، { وتفريقاً بين } جماعة { المؤمنين } الذين كانوا يُصلون في مسجد قباء.
رُوي أن بَني عَمْرو بن عوف لَمَّا بَنَوا مسجد قُباء سألوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يأتيهمْ فيصلي فيه، فأتاهُمْ فصلَّى فيه، فَحَسدتهم إخوانُهم؛ بَنو غُنم بن عوفٍ، فبنوا مسجداً على قصد أن يؤمهم فيه أبو عامر الراهب، إذا قدم من الشام، فلما أتموه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا قد بنينا مسجداً لذي الحاجة والعلة والليلة المطيرة، فصل لنا فيه حتى نتخذهُ مصلى، وكان ذلك قبل خروجه لتبوك، فقال لهم:
"إني عَلى جَنَاح سَفَرٍ، وإذا قَدِمنا، إِن شاء الله، صلَّينا فيه" . فلما قدم أتوه، فأخذ ثوبه ليقوم معهم، فنزلت الآية، فدعا مالك بن الدُّخشم، ومَعن بن عدي، وعامر بن السَّكن، فقال: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه؛ ففعلوا، واتخذوا مكانه كناسة.
ثم أشار إلى قصدهم الفاسد، فقال: { وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله }؛ أي: واتخذوه انتظاراً ليؤمهم فيه من حارب الله ورسوله، يعني: أبا عامر الراهب، فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: لا أجد قوماً يقاتلونك إلاَّ قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فانهزم مع هوازن، ثم هرب إلى الشام؛ ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات بِقنَّسرَينَ طريداً وحيداً. وكان أهل المدينة يسمونه قبل الهجرة: الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق.
وقوله: { من قبلُ }: متعلق بحارب، أي: حارب من قبل هذا الوقت، أو باتخذوا، أي: اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف؛ لأنه قبيل غزوة تبوك. { وليَحلِفُن إن أردنا إلا الحسنى } أي: ما أردنا ببنيانه إلا الخصلة الحسنى، وهي الصلاة والذكر والتوسعة على المسلمين. { والله يشهد إنهم لكاذبون } في حلفهم.
ثم نهاه عن الصلاة فيه فقال: { لا تَقُم فيه أبداً } للصلاة؛ إسعافاً لهم، { لمسجدٌ أُسسَ على التقوى من أول يوم } من أيام وجوده، { أحقٌ أن تقوم فيه } أي: أولى بأن تصلى فيه، وهو مسجد قباء، أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام مُقامه بقباء، حين هاجر من مكة، من الاثنين إلى الجمعة، وهذا أوفق للقصة. وقيل: مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقول أبي سعيد: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه؟ فقال:
"مسْجدُكم هذا، مَسجِدُ المَدِينَةِ" ِ".
{ فيه رجال يُحبون أن يتطهروا }، كانوا يستنجون بالماء، ويجمعون بين الماء والحجر، أو يتطهرون من المعاصي والخصال المذمومة، طلباً لمرضات الله تعالى، أو من الجنابة، فلا ينامون عليها، { والله يُحبُ المُطَّهرِين }؛ يرضى عنهم، ويُدنيهم من جنابه إدْناء المحب لحبيبه.
وقيل: لما نَزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه المُهاجرون، حتى وقف على باب مسجد قُباء، فإذا الأنصار جُلوس، فقال:
"أَمؤمِنونَ أَنتُم" ؟ فَسَكَتُوا، فأعادَها، فقال عمر: إنهم مؤمنون وَأَنا مَعَهم، فقال عليه الصلاة والسلام: " أَتَرضَونَ بالقَضاء" ؟ فقالوا: نعم، قال: "أَتَصبِرون على البلاء" ؟ قالوا: نعم، قال: "أَتشْكرونَ في الرَّخاء" ِ؟ قالوا: نعم، فقال عليه الصلاة والسلام: "مؤمِنُونَ وَرَبِّ الكَعبَةِ" ، فَجَلَسَ، ثم قال: " يا مَعشَرَ الأنْصَار، إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أَثنى عَلَيكم، فما الذي تَصنَعُون عند الوضوء وعِندَ الغائط" ؟ فقالوا: يا رسول الله، نُتبع الغائط الأحجارَ الثلاثةَ، ثم نُتبعُ الأحجار المَاء. فقال: { رِجَالٌ يُحِبُون أن يتَطَّهَروا } ".
{ أفمن أَسسَ بُنيانه على تقوى مِنَ الله ورضوان }؛ بإنه قصد به وجه الله، وابتغاء مرضاته، فَحسُنت النية في أوله، { خيرٌ أم من أسس بنيانه على } قصد الرياء والمنافسة، فكأنه بنى على { شفَا } أي: طرف { جُرُفٍ }: حفرة { هَارٍ } أي: واهٍ ضعيف، أشرف على السقوط، أو ساقط، { فانهار به في نار جهنم } أي: طاح في جهنم، وهذا ترشيح للمجاوز، فإنه لما شبهه بالجرف وصفه بالانهيار، الذي هو من شأن الجرف، وقيل: إن ذلك حقيقة، وإنه سقط في جهنم، وإنه لم يزل يظهر الدخان في موضعه إلى قيام الساعة.
والاستفهام للتقرير، والذي أُسس على التقوى والرضوان: هو مسجد قباء، أو المدينة، على ما تقدم، والذي أسس على شفا جرف هار هو مسجد الضرار، وتأسيس البناء على التقوى هو تحسين النية فيه، وقصد وجه الله، وإظهار شرعه، والتأسيس على سفا جرف هار هو فساد النية وقصد الرياء، والتفريق بين المؤمنين، وذلك على وجه الاستعارة والتشبيه البالغ. قاله ابن جزي: { والله لا يهدي القوم الظالمين } إلى ما فيه صلاح ونجاه.
{ لا يزالُ بُنيانُهم } أي: مبنيهم، مصدر بمعنى المفعول، { الذي بَنوا ريبةً } أي: شكاً ونفاقاً { في قلوبهم }، والمعنى: أن بناءهم هذا لا يزال سبب شكهم وتزايد نفاقهم، فإنه حملهم على ذلك، ثم لما هدمه الرسول صلى الله عليه وسلم رسخ ذلك في قلوبهم وازداد، بحيث لا يزول رسمه من قلوبهم، { إلا أن تقطع } بالموت، بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك، أو لا يزال بنيانهم ريبة، أي: شكاً في الإسلام بسبب بنيانه، لاعتقادهم صواب فعلهم، أو غيظاً بسبب هدمه، { والله عليمٌ } بنياتهم، { حكيم } فيما أمر من هدم بنيانهم.
الإشارة: من أراد أن يؤسس بنيان أعماله وأحواله على التقوى والرضوان، فليؤسسه على الإخلاص والنية الحسنة، ومتابعة السنة المحمدية، فإنها لا تنهدم أبداً، ومن أراد أن يؤسسها على شفا جرف هارٍ فليؤسسها على الرياء والسمعة، وقصد الكرامات وطلب الأعواض، فإنها تنهدم سريعاً ولا تدوم، فما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل. وبالله التوفيق.
ثم ذكر كرامة أهل الإخلاص، فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ }.