خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ
١٢٢
-التوبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

يقول الحق جل جلاله: { وما كان المؤمنون } يستقيم لهم ان ينفروا { كافةً }؛ جميعاً لنحو غزو، أو طلب علم، كما لا يستقيم لهم أن يقعدوا جميعاً، فإنه بخل، ووهن للإسلام. قال ابن عباس: هذه الآية في البعوث إلى الغزو والسرايا، أي: لا ينبغي خروج جميع المؤمنين في السرايا، وإنما يجب ذلك إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، ولذلك عاتبهم في الآية المتقدمة على التخلف عنه. فالآية الأولى في الخروج معه صلى الله عليه وسلم، وهذه في السرايا التي كان يبعثها، وقيل: ناسخة لكل ما ورد من الأمر بخروج الجميع، فهي دليل على أن الجهاد فرض كفاية.
{ فلولا }: فهلا { نَفَرَ من كل فرقةٍ }؛ جماعة كبيرة، كقبيلة أو بلدة، { طائفة } قليلة منها؛ { ليتفقهوا في الدين }، اما إذا خرجوا للغزو؛ فإنه لا يخلو الجيش من عالم أو عارف يتفقهون، مع أن مشاق السفر تشحذ الأذهان، وترقق البشرية، فتستفيد الروح حينئذٍ علوماً لدنية، وأسراراً ربانية، من غير تعلم، وهذا هو العلم الذي يصلح للإنذار.
قال في الإحياء: التفقه: الفقه عن الله؛ بإدراك جلاله وعظمته، وهو العلم الذي يورث الخوف والخشية والهيبة والخشوع، ويحمل على التقوى وملازمتها، وهذا مقتضى الآية. فإن معرفة صفاته تعالى المخوفة والمرجوة هو الذي يحصل به الانذار، لا الفقه المصطلح عليه.هـ. وأما إذا وقع الخروج لطلب العلم فالتفقه ظاهر.
ثم قال تعالى: { وليُنْذِرُوا قومَهم إذا رجعوا إليهم }، أي: وليجعلوا غاية سعيهم ومُعظم غرضهم من التفقه إرشاد القوم وإنذارهم. وتخصيصه بالذكر؛ لأنه أهم، وفيه دليل على أن التفقه والتذكير من فروض الكفاية، وأنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم، لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد. قاله البيضاوي. وقوله: { لعلهم يَحذَرُون }، أي: لعلهم يخافون مما حذروا منه.
قال البيضاوي: قد قيل: للآية معنى آخر، وهو أنه لما نزل في المتخلفين ما نزل؛ تسابق المؤمنون إلى نفير، وانقطعوا عن التفقه، فأمروا ان ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد، ويبقى أعقابهم يتفقهون، حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر؛ لأن الجدال بالحجة هو الأصل، المقصود من البعثة، فيكون الضمير في { ليتفقهوا }، { ولينذروا }: للفرق البواقي بعد الطوائف النافرة للغزو، وفي { رجعوا }: للطوائف النافرة، أي: لينذروا البواقي من قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم حصَّلوا أيام غيبتهم من العلوم.هـ. وتقدير الآية على هذا: فلولا نفر من كل فرقةٍ طائفةٌ، وجلس طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم الخارجين للغزو إذا رجعوا إليهم من غزوهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال القشيري: لو اشتغل الكُلُّ بالتَّفَقُّه في الدين لَتَعطَّلَ عليهم المعاش، ولمنعهم الكافر عن درك المطلوب، فجعل ذلك فرضاً على كفاية. ويقال: المسلمون على مراتب: فعوامَّهم كالرعية للمَلِك، وكَتَبَةُ الحديث كخزنة المَلِك، وأهل القرآن كحُفَّاظ الدفاتر، ونفائس الأموال. والفقهاء بمنزلة الوكلاء؛ إذ الفقيه يوقع الحكم عن الله. وعلماءُ الأصول كالقُوَّاد وامراء الجيوش. والأولياءُ كأركان الباب. وأربابُ القلوب وأصحابُ الصفاء كخواص المَلِكِ وجُلَسائه. فشغل قوماً بحفظ أركان الشرع، وآخرين بإمضاء الأحكام، وآخران بالردِّ على المخالفين، وآخران بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل قوماً مُفْرَدين لحضور القلب؛ وهم أصحاب الشهود، وليس لهم شُغْلٌ، يراعون مع الله أنفاسَهم، وهم أصحاب الفراغ، لا يستفزُّهم طلَبٌ، ولا يهزُّهم أمر، فهم بالله لله، بمحو ما سوَّى الله، وامَّا الذين يتفقهون في الدين فهم الداعون إلى الله، وإنما يفهم الخلق عن الله بمَنْ كان يَفْهَمُ عن الله. هـ.
قوله: وأما الذين يتفقهون... الخ، الداعون إلى الله على الحقيقة هم العارفون بالله، وهم أصحاب الشهود، الذين وصفهم قبل، وأما الفقهاء في الدِّين فإنما يدعون إلى أحكام الله، وتعلم دينه دون معرفة ذاته وصفاته؛ فدعواهم ضعيفة التأثير، فلا ينهض على أيديهم ما ينهض على أيدي العارفين.
وقال الورتجبي، في قوله تعالى: { ليتفقهوا في الدين }: قال المرتعش: السياحة والأسفار على ضربين: سياحة لتعلّم احكام الدين وأساس الشريعة، وسياحة لآداب العبودية ورياضة الأنفس، فمن رجع عن سياحة الأحكام قام بلسانه يدعو الخلق إلى ربه، ومن رجع من سياحة الأدب والرياضة قام في الخلق يهديهم لأخلاقه وشمائله. وسياحة هي سياحة الحق، وهي رؤية أهل الحق والتأدب بآدابهم، فهذا بركته تعم البلاد والعباد.هـ.
ثم أمر بجهاد الأقرب فالأقرب، فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ }.