خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ
٣٠
ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٣١
يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ
٣٢
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ
٣٣
-التوبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

قلت: (عزيز): مبتدأ، و (ابن الله): خبر، فمن نونه جعله مصروفاً؛ لأنه عنده عربي، ومن حذف تنوينه: إما لمنعه من الصرف؛ للعلمية والعجمية عنده، وإما لالتقاء الساكنين؛ تشبيهاً للنون بحروف اللين، وهو ضعيف، والأول أحسن.
يقول الحق جل جلاله: { وقالت اليهودُ عُزَيرٌ ابنُ الله }، قال ابن عباس: هذه المقالة قالها أربعة منهم، وهم: سَلامُ بن مُشْكم، ونُعْمَانُ أو لُقْمَانُ بْنُ أَوفَى، وشَاسُ بنُ قَيس، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ. وقيل: لم يقلها إلا فنحاص، ونسب ذلك لجميعهم؛ لسكوتهم عنه. قال البيضاوي: إنما قال ذلك بعضهم من متقدميهم، أو ممن كانوا بالمدينة، وإنما قالوا ذلك؛ لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة، وهو ـ أي عزير ـ لما أحياه الله بعد مائة عام، أملى عليهم التوراة حفظاً، فتعجبوا من ذلك، وقالوا: ما هذا إلا أنه ابن الله، والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قُرئت عليهم فلم يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب. هـ.
{ وقالت النصارى المسيحُ ابنُ الله }، هو أيضاً قول بعضهم، وإنما قالوه استحالة أن يكون الولد بلا أب، أو لما كان يفعل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وتقدم الرد عليهم، وسبب إدخال هذه الشبهة عليهم، في سورة المائدة.
قال تعالى: { ذلك قولُهم بأفواههم } من غير دليل ولا برهان، بل قالوا به من عندهم { يُضاهِئون } أي: يشابهون في هذه المقالة { قولَ الذين كفروا من قبلُ }، يعني: قدماءهم، على معنى أن الكفر قديم فيهم. قال ابن جزي: فإن كان الضمير لليهود والنصارى، أي المتقدمين، فالإشارة بقوله: (الذين كفروا من قبل) للمشركين من العرب، إذ قالوا: الملائكة بنات الله، وهم أول كافر، أو للصابئين، أو لأمم تقدمت، وإن كان الضمير للمعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم؛ من اليهود والنصارى، فالذين كفروا من قبل هم أسلافهم المتقدمون. هـ.
{ قاتَلهُم اللَّهُ } أي: أهلكهم ودمرهم؛ لأن من قاتله الله هلك، فيكون دعاء، أو تعجباً من شناعة قولهم، { أنَى يُؤفكون } أي: كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل.
{ اتخذوا أحبارَهم } أي: علماءَهم { ورهبانَهم }؛ عُبَّادَهم { أرباباً من دون الله }؛ بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، وفي السجود لهم، { والمسيحَ ابنَ مريمَ }؛ بأن جعلوه ابن الله، { وما أمروا إلا ليعبدوا إِلهاً واحداً } وهو الله الواحد الحق، وأما طاعة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وسائر من أمر بطاعته، فهو في الحقيقة طاعة الله، { لا إله إلا هو }؛ تقرير للتوحيد، { سبحانه عما يشركون }؛ تنزيهاً له عن أن يكون معه شريك.
{ يريدون أن يُطفئوا } أي: يُخمدوا { نورَ الله }؛ القرآن أو الإسلام بجملته، { بأفواههم } كقولهم فيه: سحر، وشعر، وغير ذلك، وفيه إشارة إلى ضعف حيلتهم فيما أرادوا، { ويأبى اللَّهُ }؛ لا يرضى { إلا أن يُتِمَ نوره } بإعلاء التوحيد وإظهار الإسلام، وإعزاز القرآن وأهله، { ولو كره الكافرون } ذلك، فإن الله لا محالة يُتم نوره، ويظهر دينه.
{ هو الذي أرسلَ رسولهُ } محمداً صلى الله عليه وسلم { بالهدى ودين الحق ليُظهرَهُ على الدين كله }، الضمير في "يُظهره". للدين الحق، أو للرسول صلى الله عليه وسلم. واللام في "الدين". للجنس، أي: على سائر الأديان فينسخها، أو على أهلها فيخذلهم، وقد أنجز وعده، وأظهر دينه ورسوله على الأديان كلها، حتى عم المشارق والمغارب، { ولو كَرِهَ المشركون } ذلك الإظهار، فيظهره الله رغماً من أنفهم. وقيل: يتحقق ذلك عند نزول عيسى عليه السلام، حتى لا يبقى دين إلا دين الإسلام، والله تعالى أعلم.
الإشارة: من انطمس نور بصيرته نسب لله ما لا يليق بكمالاته، ومن لم تنهضه سوابق العناية وقف مع الوسائط ولم ينفذ إلى شهود الوسائط، وقد عيَّر الله قوماً وقفوا مع الوسائط فقال: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله }، وقال، في شأن الواسطة العظمى؛ غيرةً على القلوب أن تقف مع غيره:
{ { ليسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيء } ُ } [آل عمران: 128]، { { إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ } [هود: 12]، ودخل بعض العارفين على إنسان وهو يبكي، فقال: وما يبكيك؟ فقال له: مات أستاذي، فقال له ذلك العارف: ولم جعلت أستاذك من يموت؟.
فالوسائط؛ كالأنبياء والأولياء، إنما هم مُوَصِّلونَ إلى الله، دالون عليه، فمن وقف معهم ولم ينفذ إلى الله فقد اتخذه رباً عند الخواص.
وقال الورتجبي على هذه الآية: عيَّر الحق تعالى من بقي في رؤية المقتدَى به دون رؤية الحق، وإن كان وسيلة منه، فإن في إفراد القدم من الحدوث، النظر إلى الوسائط، وهو شرك، وتصديق ذلك تمام الآية؛ { وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً }. غَيرهُ الوحدانية ما أبقت في البَيْن غيراً من الشواهد والآيات وجميع الخلق. قال الله تعالى: { قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرهُم } [الأنعام: 91]. ولما رأى صلى الله عليه وسلم غيره القدم على شأن استهلاك الغير زجر من مدحه وتجاوز في المدح فقال:
" " لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح" .
ثم قال الورتجبي: قال بعضهم في هذه الآية: سكنوا إلى أمثالهم، فطلبوا الحق من غير مظانه، وطُرق الحق واضحة لمن كحل بنور التوفيق، وبصر سبل التحقيق، ومن أعمي عن ذلك كان مردوداً عن طريق الحق إلى طرق الضالين من الخلق، وقد وقع أنهم معيرون وموبخون بقلة عرفانهم أهل الحقائق، وركونهم إلى أهل التقليد، وسقطوا عن منازل أهل التوحيد في التفريد، وهكذا شأن من اقتدى بالزّواقين من أهل السالوس المتزينين بزي المشايخ والعارفين المتحققين، وتخلفَ خلفَ الجامعين للدنيا، الذين يقولون: نحن أبناء المشايخ ونحن رؤساء الطريقة، يُضْحك اللهُ الدهرَ من جهلهم حيث حيث علموا أن الولاية بالنسب، حاشا أن من لم يُذق طعمِ وِصال الله، وقلبُه معلق بغير الله، هو من أولياء الله.
قال الجنيد: إذا أراد الله بالمريد خيراً هداه إلى صحبة الصوفية، ووقاه من صحبة القراء. ولو اشتغلوا بشأنهم وجمع دنياهم، ولم يتعرضوا لأولياء الله، ولم يقصدوا إسقاط جاههم، لكفيهم شقاوتهم، لا سيما ويطعنون على الصديقين العارفين. قال الله في شأنهم: { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون }، كيف تطفأ بتراب حسبانهم أنوارُ شموس الصفات، التي من جباه وجوههم، ولئالئ خدودهم، وأصلها ثابت في أفلاك الوحدانية وسماوات القيومية، ويزيد نورهم على نور؛ لأنه تعالى بلا نهاية ولا منتهى لصفاته.
قوله تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق }: إن الله سبحانه سن سنة أزلية: ألا يجد أحدٌ سبيله إلا من يقُيض له أستاذاً عارفاً بالله، وبسِّر دينه وربوبيته، فيدله إلى منهاج عبوديته، ومعارج روحه وقلبه، إلى مشاهدة ربوبيته، ويكون هو واسطة بينه وبين الله، وإن كان الفضل بيد الله، يؤتيه من يشاء بغير علة ولا سبب، جعله واسطة للتأديب لا للتقريب، وصيره شفيعاً للجنايات، لا شريكاً في الهدايات، هداه نور القرآن، وبيّنه حقيقة البيان، مع إظهار البرهان. قيل: جعل الله الوسائط طريقاً لعباده إليه، وبعثهم أعلاماً على الطرق ونوراً يهتدى بهم، وعرفهم سبل الحق وحقيقة الدين، قال الله تعالى: { أرسل رسوله بالهدى ودين الحق }، انتهى كلامه.
ثم ذكر مساوئ الأحبار والرهبان، تنفيراً من طاعتهم وذماً لمن اتخذهم أرباباً، فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ }.