تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه
قوله: { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَٱخْتَلَفُواْ } إلى قوله: { مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ }
المعنى: ما كان الناس إلا أهل دين واحد، فافترقت بهم السبل.
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ (سَبَقَتْ) مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي: لولا أنه سبق في علمه ألا يهلك قوماً إلا بعد أن يملي لهم، فتنقضي آجالهم "{ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ }: بأن يهلك أهل الباطل منهم، وينجي أهل الحق".
قال مجاهد: كان الناس وقت آدم على دين واحدٍ، ثم اختلفوا إذ قتل أحد ابْنَيْ آدم أخاه.
وقيل: يراد بالناس هنا: العرب.
وقيل المعنى: إن كل مولود يولد على الفطرة، ثم يختلفون بعد ذلك.
والأُمة: على خمسة أوجه:
- الأُمة: "العُصْبة، والجماعة نحو { { أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } [المائدة: 66]
ونحو: { { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ } [الأعراف: 159].
- والثاني: أن تكون بمعنى "الملة"، نحو: { وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً }. ومثله الحرف الذي في هذه السورة.
{ وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً }: أي: على ملة الإسلام، ومنه:
{ { وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً } [المؤمنون: 52]، ومنه { { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [الشورى: 8]: أي: أهل ملة.
- والثالث: أن تكون بمعنى "السنين والحين" نحو: { { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } [هود: 8] ونحوه { { وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [يوسف: 45].
والرابع: أن تكون الأُمة بمعنى "قوم" نحو قوله: { { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ } [النحل: 92] أي: قوم أكرم من قوم. ومنه { { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } [الحج: 34] أي قوم.
- والخامس: أن تكون الأُمة بمعنى "الإمام". نحو قوله:
{ { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ } [النحل: 120] أي: إماماً، يقتدى به في الخير.
ثم أخبر عنهم تعالى فقال: { وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } أي: يقول هؤلاء المشركون: هلا نزل عليه آية من ربه، يعلم بها أنه محقٌّ، صادق قال الله عز وجل: قل لهم يا محمد: { إِنَّمَا ٱلْغَيْبُ لِلَّهِ }: أي لا يعلم أحد، لو لم يفعل ذلك إلا هو، لأنه عالم الغيب.
{ فَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ }: أي: انتظروا قضاء الله سبحانه بيننا وبينكم، بتعجيل العقوبة للمبطل /، وإظهار الحق للمحق.
وقيل: المعنى: فانتظروا نصر الله المحق، وخذلانه المبطل. { إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ }: أي: إني معكم منتظر من المنتظرين. لذلك. قوله: { وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً } إلى قوله { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } جواب إذا محذوف عند سيبويه. والتقدير: من بعد ضراء مستهم مكروا. والعرب تجتزئ بإذا في جواب الشرط عن "فعلتُ وفعلوا".
والناس هنا: المشركون كما قال: { { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } [العاديات: 6].
قال الحسن: هو المنافق، والمعنى وإذا أذقنا الكفار فرجاً من بعد كرب أصابهم، ورخاء بعد شدة أصابتهم { إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيۤ آيَاتِنَا } قال مجاهد: "استهزاء، وتكذيب".
وقيل: يحتالون حتى يجعلوا سبب الرحمة في غير موضعه. قل لهم يا محمد: { ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً } أي: أسرع استدراجاًَ لكم وعقوبة.
{ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } أي: إن الحفظة يكتبون عليكم ما تمكرون في آياتنا.
ثم عدد تعالى نعمه فقال: { هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } وقرأ ابن عباس: "يَنْثُرُكم" من النثر: أيْ: يبسطكم براً وبحراً.
{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ }: وهي السفن { وَجَرَيْنَ بِهِم } يعني: السفن بالناس. { بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ }، وفرح بذلك الناس { جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ }، أي: جاءت السفن ريح.
وقيل: جاءت الريح الطيبة ريحٌ عاصف، والعاصف: الشديدة.
{ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ } أي: من كل جانب.
{ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } أي: أيقنوا بالهلاك.
{ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } أي: أخلصوا الدعاء لله عز وجل، دون أوثانهم، وآلهتهم.
(و) قيل: (لأنهم) يقولون: "آهيا شَرَاهِيّاًً": تفسيره: يا حيُّ يا قيومُ { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } على نعمك (وتخليصك) (إيانا مما نحن فيه).
{ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ }، والفلك تذكر، وتؤنث، وتكون واحداً وجمعاً (فمن جعلهما جمعاً) جعل واحدهما فلكاً كوُثْنٍ ووثَنٍ.
وقوله: { إِذَا كُنتُمْ }، ثم قال: { وَجَرَيْنَ } فهذا من الرجوع من المخاطبة إلى الإخبار، ثم قال إخباراً عن فعلهم:
{ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } أي: يكفرون، ويعملون بالمعاصي على ظهر الأرض.
وأصل النجاء: البعد من المكروه ومنه الاستنجاء، لأن الإنسان يبعد به عن نفسه الأذى.
ثم قال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ }:
أي: عليها يرجع. وإياها تظلمون. وهذا الذي أنتم فيه متاع الحياة الدنيا.
والبغي في اللغة: التطارُحُ في الفساد.
ومن قرأ { مَّتَاعَ } بالرفع احتمل أن يكون خبر بغيكم، ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف، وتكون { عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } خبر بغيكم. وتقدير ذلك "متاع الحياة الدنيا" أو "هو متاع الحياة الدنيا، وبَيْنَ الرفعين فرق: وذلك أنك إذا رفعت "متاع" على أنه خبر "بغيكم"، كان المعنى: إنما بغي بعضكم على بعض متاع الحياة الدنيا مثل: { { فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } [النور: 61]، و { { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [التوبة: 128].
وإذا رفعتَ "المتاع" على إضمار مبتدأ، وجعلت "على أنفسكم" خبر بغيكم كان المعنى: إنما فسادكم راجعٌ عليكم مثل: { { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء: 7] وهو معنى قراءة / من قرأ بالنصب. ويكون النصب على المصدر, أي: تمتعون متاع الحياة الدنيا.
{ ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }: أي: إلينا ترجعون في الآخرة، فنخبركم بعملكم، ونجازيكم عليه.
{ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ }: وقف. { عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } (وقف)، إن جعلت { مَّتَاعَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } منصوباً، (أ) ومرفوعاً على إضمار مبتدإ.