تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه
قوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } إلى قوله { هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ }.
والمعنى: من أعظم جرماً ممن اختلق على الله سبحانه، الكذب، أي: كذب بآياته، وحججه، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء به.
{ أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ }، يوم القيامة، فيسألهم عن أعمالهم في الدنيا.
قال ابن جريج: ذلك الكافر، والمنافق.
{ وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ }: الذين شهدوا على أعمالهم، وحفظوها عليهم:
{ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ } في الدنيا { أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ }: أي: غضبه، وإبعاده من رحمته.
قال مجاهد: الأشهاد هنا: الملائكة الحفظة، وكذلك قال قتادة. وقال الضحاك: الأشهاد: الأنبياء، والرسل، صلوات الله عليهم، يقولون: هؤلاء الذين كذبوا بما جئنا به من عند ربنا.
ثم بين تعالى الظالمين مَنْ هُمْ فقال: { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ }: أي: يُزَيِّغون أن يدخلوا في الإيمان. { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً }: أي: يلتمسون لسبيل الله عز وجل، العوج والزيغ. وسبيل الله هو الإيمان به، وبما جاء من عنده، وهم مع ذلك { بِالآخِرَةِ هُمْ / كَافِرُونُ }: أي: جاحدون، لا يصدقون بالبعث، { عَلَىٰ رَبِّهِمْ }: وقف.
ثم قال تعالى: { أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ } والمعنى: أولئك الذين هذه صفتهم، لم يكونوا معجزين ربهم، سبحانه، في الأرض بهرب، أو باستخفاء، إذا أراد عقابهم. { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ }: أي: ليس لهم من يمنعهم من الله عز وجل، إذا أراد الانتقام منهم.
ثم قال تعالى: { يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ } ولا يعقلون عن الله عز وجل. { وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ }. ولا يهتدون إلى رشدهم. وقيل: إن المعنى يضاعف لهم العذاب أبداً: أي: وقت استطاعتهم السمع والبصر.
وقيل: إن "ما" للنفي، فيحسن الابتداء بها على هذا، ولا يحسن على القولين الأولين.
ومعنى النفي هنا أن الضمير في "يستطيعون"، و "يبصرون": الأصنام، والنفي عنها: أي: لم تكن تسمع، ولا تبصر. وهذا التأويل مروي عن ابن عباس.
وقيل: المعنى: إن الضمير "لهم"، والنفي "عنهم": أي: لم يكونوا ليسمعوا شيئاً ينفعهم من الإيمان، ولا يبصرونه، لأن الله، عز وجل، حال بينهم وبين ذلك، لما سبق في علمه، فهو مثل قوله: { { يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } [الأنفال: 24]: أي: بين الكافر والإيمان، وبين المؤمن والكافر. ومثله { { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [السجدة: 13]، ومثله { { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً } [يونس: 99] بالله، عز وجل. ختم على قلوبهم، وعلى أبصارهم بكفرهم. قال ذلك قتادة، فقال: فهم صمٌّ عن الحق، فما يسمعونه، بُكْمٌ، فما ينطقون به. عميٌ فلا يبصرون.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه، إن المعنى: لا يستطيعون أن يسمعوا سماع منتفع بما يسمع، ولا يبصرون إبصار مُهتَدٍ، لاشتغالهم بالكفر.
قال الزجاج: ذلك كان منهم لبغضهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يسمعون عنه، ولا يفهمون ما يقول.
قال الفراء: سبق لهم في اللوح المحفوظ أنه يضلهم.
قوله: { أَوْلِيَآءَ } وقف عند نافع، { ٱلْعَذَابُ }: وقف إن جعلت "ما" نَفياً خاصة.
ثم قال تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } أي: غبنوا أنفسهم حظها من رحمة الله عز وجل.
{ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }: أي: بَطُلَ كذبهم، وافتراؤهم على الله، سبحانه.
ثم قال تعالى: { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ }، و { لاَ جَرَمَ } عند سيبويه، والخليل بمعنى: حق. وأن في موضع رفع، وجيء بـ "لا" عند الخليل ليعلم أن المخاطب لم يُبتدأ به كلامه، وإنما خاطب غيره.
وقال الزجاج: لا هنا نفي لما ظنوا أنهم ينفعهم كأنه كان المعنى: لا ينفعهم ذلك.
{ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ }، أي: كسب ذلك الفعل لهم الخُسْرَان، فـ "أن" عنده في موضع نصب.
وقال الكسائي: المعنى: "لا صَدَّ، ولا مَنْعَ عن أنهم". فإنَّ في موضع نصب أيضاً، فحذف الخافض. وحُكِيَ: "لاجَرَ" بغير ميم لغة ناسٍ من فُزَارة.
وحكى / الفراء: "لاذَا جَرَمْ لغة لبني عامر.
وقال الفراء: هي كلمة كانت في الأصل، والله أعلم، بمنزلة: لا بد أنك قائم، ولا محالة أنك قائم، فكثرت حتى صارت منزلة "حقاً".
تقول العرب: لا جرم لآتينك، ولا جرم لقد أحسنت إليك، وأصلها من جرمت، أي: كسبت الشيء.
وذكر ابن مجاهد عن بعض القراء، وهو حمزة: ولا جرم بالمد، وكان يأخذ به بمعنى الآية: حقٌّ أنَّ هؤلاء الذين هذه صفتهم، هم الأخسرون في الآخرة: باعوا منازلهم في الجنة، بمنازلهم في النار، وذلك هو الخسران المبين.