تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه
قوله: { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ } إلى قوله: { ٱلصَّاغِرِينَ }:
المعنى: وتحدث نسوة بمصر بخبر امرأة العزيز، ولم ينكتم أمرهما، وقلن: امرأة العزيز تراود عبدها. والعرب تسمي المملوك فتى.
{ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً }: أي قد بلغ حبه إلى شغاف قلبها، حتى غلب عليه. والشفاف: غلاف القلب. وقيل: حجابه وقيل: الشغاف: حبة القلب، وسويداؤه.
وقرأ أبو رجاء، والأعرج، وقتادة: "شعفها" بالعين، غير معجمة: أي: قد ذهب بها كل مذهب، لأن شغاف الجبال أعاليها.
وقال الشعبي: الشفاف: حب، والشغف: جنون.
{ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي: في خطأ ظاهر، { { إِذْ رَاوَدتُّنَّ } [يوسف: 51] غلامها عن نفسه. فلما سمعت امرأة العزيز بقول النسوة، وما مَكَرْن ذلك أنهن فيما روي، فعلن ذلك لتريهن يوسف. فقلن ما قلن مكراً بها، فلذلك سمي قولهن مكراً.
وقيل: إنها كانت أطلعتَهُنَّ على ذلك، واستكتمتهن، فأفشين ذلك، ومكرن بها. فلما سمعت بما فعلن، أرادت أن تُوقِعهن فيما وقعت هي فيه: { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً }: أي: أعدت لهن مجلساً، أو مما يتكئن عليه من النمارق. وهو يفتعل من "وكأت". والأصل فيه: "مؤتكاً"، ففعل به ما فعل "بمتزر" من الوزر. وقد نطق به بالتاء / مع غير تاء الإفتعال. قالوا: "تك الرجل متكئاً".
وقال ابن جبير: متكئاً: طعاماً وشراباً.
وقال السدي: ما يتكئن عليه. وقال ابن عباس: مجلساً. وقرأ الحسن: "متكى" بإسكان التاء من غير همز، على وزن "فعلـ(ـى) وهو المجلس والطعام.
وقال الضحاك: المتك: الزُّمَاوَرْد، وقيل هو الأترنج، روي ذلك عن ابن عباس.
وحكى القتيبي أنه يقال: "اتكأنا عند فلان، أي: أكلنا عنده"
قوله: { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً }: يدل على أنه طعام يقطع بالسكاكين. فكأنه في التقدير: وأعتدت لهنَّ طعاماً متكئاً، ثم حذف مثل { { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا } [يوسف: 82]. والسكين: يُذَكر، ويؤنث عند الكسائي، والفراء، ولا يعرف الأصمعي إلا التذكير.
{ وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } أي: قالت ليوسف: أخرج، فخرج (عليهن) { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ }: أي عظم وجل في أعينهن، وكَبُر، وعظم، وبُهْتنَ. وقيل:
{ أَكْبَرْنَهُ }: حضن الحيض البين.
"فالهاء" على القول الأول ليوسف، وعلى القول الثاني للحيض، كناية على المصدر. وأكبر[ن]، بمعنى حضن، مروي عن ابن عباس، والضحاك.
وعن مجاهد أن المعنى: فلما رأينه أعظمنه فحضن.
وقوله: { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } بالحز بالسكاكين.
قال السدي: جعلن يحززن في أيديهن، وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج، ما يعقلن مما طرأ عليهن من جماله، وهيأته.
وقال قتادة، ومجاهد: "تقطعن أيديهن حتى ألقينها".
قال عكرمة: قطعن أيديهن: أي: أكمامهن. "وروي أن يوسف، وأمه أعطيا ثلث الحسن" وعن النبي صلى الله عليه وسلم، "أنهما أعطيا ثلث الحُسن"
).
وقوله: { وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ }: أي: معاذ الله.
وحاشا يكون بمعنى التنزيه، وبمعنى الاستثناء، وهي هنا للتنزيه.
{ مَا هَـٰذَا بَشَراً }: استَعظَمْنَ أمره، إذ لم يرين من البشر مثله.
{ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ }: أي: من الملائكة. قالت لهن: { فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ }: أي: فهذا الذي حلّ بكن في تقطيع أيديكنَّ الذي لمتنني في حبه. وقال الطبري: ذلك بمعنى هذا.
ثم قالت: { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ } إقراراً منها أن ما قيل حقٌّ، { فَٱسَتَعْصَمَ }: قال قتادة: استعصى، وقال ابن عباس: امتنع.
{ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ (لَيُسْجَنَنَّ) }: أي: إن لم يطاوعني على ما أدعوه إليه { لَيُسْجَنَنَّ } { وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ }: أي: من المهانين، المذلين بالحبس، والسجن.
وكأن في الكلام تقديماً، وتأخيراً، لأن تهديدها له بالسجن والهوان. أي: إن لم يساعدها إنما كان قبل تخريق القميص، وقبل معرفة زوجها بما (جرى) لها معه، والله أعلم بذلك.
فهذا الذي يدل عليه معنى النص: إذ بوقوف زوجها على القصة، انقطع ما بينهما، وطالبته بالعقوبة فسُجِن.