تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه
قوله: {وَٱسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} إلى قوله {عَذَابٌ غَلِيظٌ}.
والمعنى: واستفتحت الرسل على قومها لما كذبوهم: أي: استنصروا الله عليها لما وعدهم بالنصر على الأمم، وأنه يسكنهم الأرض من بعد الأمم.
هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
وقال ابن زيد: استفتحت الأمم بالدعاء، كقول قريش:
{ { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32]. وقد أعلمنا الله أن قوم هود استفتحوا، وقالوا لهود: { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ (مِنَ ٱلصَّادِقِينَ) } [الأعراف: 70].
فالاستفتاح عنده مسألة العذاب.
وقد روي أنه قيل لقريش حين استفتحوا / العذاب: إن لهذا أجراً يؤخر إلى يوم القيامة، فقالوا: { رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ } [ص: 16]: أي: عجل لنا نصيبنا من العذاب على (طريق) التكذيب به، (و) على هذا أتى قوله: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ } [العنكبوت: 53] الآية.
وقوله: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}: أي: أهلك كل متكبر عن الإيمان معاند.
قال المفسرون: هو من امتنع أن يقول: لا إله إلا الله.
وقال قتادة: العنيد: الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله".
وقيل: الجبار هو الذي لا يرى لأحد عليه حقاً.
وقيل: هو أبو جهل لعنه الله وُنَظَراؤُهُ.
ويقال: جبار بين الجبرية والجَبرِيَّة بكسر الجيم، والباء، والجَبْرَوُةُ والجَبْرُوَّة، والجبروت، والعنيد: المعاند للحق.
ثم قال تعالى: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ}: أي: من وراء ذلك الجبار العنيد جهنم يردها: أي: من أمامه جهنم. كما يقال: إن الموت من ورائك، أي: من أمامك. وأصل "وراء": ما توارى عنك، وهو يصلح لخلف ولقدام، وليس هو من الاضداد.
وقوله: {وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ}: الصديد: الدم، والقيح يتجرعه {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي: يتحساه، ولا يكاد يزدرده من شدة كراهيته، أي: لا يقدر يبلعه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال في قوله: {يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ}. قال يقرب إليه فيكرهه، فإذا دنا منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه. فإذا شربه، قطع أمعاءه، حتى يخرج من دبره. يقول: (الله تعالى): { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } [محمد: 15]، وقال: { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ } [الكهف: 29].
ثم قال تعالى: {وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ}: أي: يأتيه الموت عن يمينه، وشماله، وخلفه، وقدامه.
وقيل: معناه: من كل مكان في بدنه من شدة عذابه.
{وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}: أي: لا تخرج نفسه، والمعنى: يأتيه ما يُمات منه من كل جانب، وليس يموت.
قال: ابن جريج: "تعلق نفسه عند حنجرته، فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه، فيجد لذلك راحة".
وقيل: المعنى {وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ}: أي "من تحت كل شعرة في جسده".
ثم قال: {وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}: أي: من وراء ما هو فيه من العذاب، - يعني - أمامه (عذاب غليظ).
قال الفضيل: هو حبس الأنفاس.
وقال القرظي: محمد بن كعب: إذا دعا الكافر في جهنم بالشراب فرآه، مات موتات، فإذا دنا منه مات موتات، فإذا شرب منه مات موتاتٍ. فهو قوله: {(وَيَأْتِيهِ) ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ}.