خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ
١٠٨
لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ
١٠٩
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١١٠
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١١١
وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
١١٢
-النحل

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله: { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } إلى قوله: { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }.
معناه: أولئك الذين تقدمت صفتهم، هم الذين طبع الله على قلوبهم، أي: ختم عليها بطابعه فلا يؤمنون ولا يهتدون، وأصم أسماعهم، فلا يسمعون داعي الله [عز وجل] سماع قبول، وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون بصر مهتد معتبر. { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } أي: هم الساهون عما أعد الله [عز وجل] لأمثالهم من أهل الكفر وعما يراد بهم.
ثم قال: { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ }.
قال الطبري: لا جرم معناه لا بد أنهم في الآخرة هم الهالكون الذين غبنوا أنفسهم حظوظها.
ثم قال تعالى: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ }.
أي: هاجروا إلى المدينة وتركوا ديارهم وأموالهم، أي من بعدما عذبوا على الإسلام بمكة ثم جاهدوا المشركين في الله [عز وجل] مع نبيه [صلى الله عليه وسلم] وصبروا في الجهاد، وعلى طاعة الله [عز وجل] إن ربك من بعد ذلك أي: من بعد الفعلة التي فعلوها { لَغَفُورٌ } أي لساتر على ذنوبهم { رَّحِيمٌ } بهم. وقد تقدم الكلام فيمن نزلت هذه الآيات.
ومن قرأ { فُتِنُواْ } بالفتح، وهي قراءة ابن عامر، فمعناه: عذبوا غيرهم على الإيمان ثم آمنوا هم من بعدما فعلوا ذلك بالمؤمنين، إن ربك من بعد الفعلة التي فعلوها ساتر لذنوبهم، رحيم بهم.
قال ابن عباس وقتادة: نزلت في قوم خرجوا إلى المدينة فأدركهم المشركون ففتنوهم فكفروا مكرهين.
وقال الحسن وعكرمة: نزلت في شأن ابن أبي سرح: فتنه المشركون فكفر، فنزلت:
{ { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ } [النحل: 106]. [الآية، ثم استثنى إلا من أكره] ثم نسخ واستثنى بقوله: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ } الآية، وهو عبد الله بن أبي سرح كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فلحق بالمشركين، وأمر به النبي [صلى الله عليه وسلم] يوم فتح مكة، بأن يقتل فاستجار له عمر فأجاره رسول الله / صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا }.
يوم منصوب برحيم. وقيل انتصب على إضمار: [و] اذكر { يَوْمَ تَأْتِي [كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا] }.
ومعنى الآية: أن الله أعلمنا أن كل إنسان [منهم] يوم القيامة منشغل بنفسه، بطلب خلاصها. وروي أن كعباً قال لعمر [رضي الله عنه]: تزفر جهنم يوم القيامة زفرة، فلا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل، إلا جثا على ركبتيه، يقول: يا رب نفسي، حتى أن إبراهيم، خليل الرحمن، ليجثو على ركبتيه. ويقول: لا أسألك إلا نفسي، ثم قال كعب: إن هذا لفي كتاب الله، ثم تلى: { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } الآية.
وقوله: { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً }.
أي: ضرب الله مثلاً، مثل قرية، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقوله: { آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً } خبر بعد خبر. و { رَغَداً } مصدر في موضع الحال.
والمعنى: [و] مثل الله مثلاً لمكة التي سكنها أهل شرك. والقرية مكة، في قول: ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد. وعن حفصة أم المؤمنين [رضي الله عنها]: هي المدينة، والأول أشهر.
قال ابن شهاب: الغاسق إذا وقب: الشمس إذا غربت. والقرية التي أرسل إليهم اثنتان انطاكية، والقرية التي بحاضرة البحر، طبرية. والقرية التي كانت آمنة مطمئنة هي يثرب.
وقوله: { كَانَتْ آمِنَةً } أي: لا يخاف فيها أحد، لأن العرب كانت يسبي بعضها بعضاً، وأهل مكة لا يغار عليهم ولا يحاربوا في بلدهم.
ومعنى { مُّطْمَئِنَّةً }: قارة بأهلها لا ينتجع أهلها من البلدان كما ينتجع أهل البوادي.
{ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً } أي: يأتي أهلها معائشهم واسعة كثيرة { مِّن كُلِّ مَكَانٍ } من البلدان.
ومعنى: { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } أي: كفر أهلها بأنعم الله. وواحد الأنعم على مذهب سيبويه نعمة. وقال قطرب: واحدها نَعْم [مثل] وُدّ وأَوُدّ، وقال بعض الكوفيين: وأحدها نَعْماء [كبأ]ساء وأبْؤُس وضراء و[أ]ضر.
{ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ }.
أي: أذاق أهلها { لِبَاسَ ٱلْجُوعِ } أي: أذاقهم جوعاً خالط أجسامهم فجعل ذلك لمخالطته لأجسادهم بمنزلة اللباس لها، وذلك أنه سلط عليهم الجوع سبع سنين متواليات حتى أكلوا العِلْهزَ. والعِلْهِزُ أن تُؤْخذ الحَلَمَة فَتُفْقأ على الوبر حتى يبتل بدمها، ثم يغلى ويؤكل. ويروى: أنهم أكلوا لحوم الكلاب. وأصل الذوق بالفم ولكنه استُعمِلَ هنا للابتلاء والاختبار.
وقوله: { وَٱلْخَوْفِ }. [هو] ما كان يلحقهم من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيوشه كانت تطيف بهم.
وقوله: { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }.
أي: بكفرهم وجحدهم للنعم.
وإنما قال: { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } ولم يقل: بما كانت تصنع لأنه رده على المعنى. لأن معنى ذكر / القرية في الآية: يراد به أهلها. فرجع "يصنعون" على المعنى: [و] مثله قوله
{ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [الأعراف: 4]. فرجع، آخر الكلام إلى الأهل، وقد جرى أوله على الأخبار عن القرية والمراد بها أهلها. وهذا هو قوله في السجدة: { { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَكْبَرِ } [السجدة: 21] فالعذاب الأدنى [هو الجوع] والأكبر ما حل بهم يوم بدر من القتل والأسر. وهو أيضاً قوله: { { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } [الدخان: 10] وهو الجوع، كان الرجل يرى بينه وبين السماء دخاناً من شدة الجوع.