تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه
قوله: { ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ } إلى قوله: { حَلِيماً غَفُوراً }.
المعنى الذي بيّنا لك يا محمد من الأخلاق: المرغب فيها، والتي نهيناك عن فعلها، "مما أوحى إليك ربك من الحكمة" أي: من الأشياء التي أوحاها إليك ربك يعني القرآن.
ثم قال تعالى: { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ }.
أي: شريكاً في عبادته.
{ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً }.
أي: تلومك نفسك وعارفوك من الناس: "مدحوراً": مبعداً مقصى في النار. قال ابن عباس: "مدحوراً" مطروداً.
ويروى أن من قوله [تعالى": { [وَ]لاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } إلى قوله: { مَلُوماً مَّدْحُوراً } هي العشر كلمات التي أنزلها الله [عز وجل] على موسى [صلى الله عليه وسلم] في التوراة. ومثلها التي في الأنعام { { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [الأنعام: 151] إلى آخر الثلاث آيات. وهي المُحْكَمَة التي ذكرها الله [عز وجل] في سورة آل عمران. وفيه اختلاف قد ذكرته هنالك.
ثم قال: { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً }.
هذا توبيخ للمشركين الذين جعلوا الملائكة بنات الله [سبحانه و] تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ومعناه افاختار لكم ربكم أيها الناس / الذكور من الأولاد واتخذ لنفسه البنات وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم، فجعلتم لله [عز وجل] ما لا ترضون لأنفسكم. وقيل: الذين قالوا هذا هم اليهود، قاله قتادة. وقيل: هم كفرة العرب وعليه أكثر المفسرين.
ثم قال تعالى: { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً }: أي قولة منكرة.
ثم قال: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ [لِيَذَّكَّرُواْ] }.
أي: صرفنا لهؤلاء المشركين، الآيات والعبر والأمثال، والتخويف، والإنذار، والوعد، والوعيد.
والمفعول لصرفنا محذوف وهو التخويف والإنذار وشبهه وقيل: "في": زائدة والمعنى: صرفنا هذا القرآن. والأول أحسن.
فالمعنى: صرفنا الأمثال في هذا القرآن لعلهم أن يتذكروا ذلك فيعقلوا خطأ ما هم عليه، فيرجعوا ويؤمنوا وما يزيدهم ذلك البيان إلا نفوراً عن الحق وبعداً منه.
وتشديد "لِيَذَكَّرُوا" تحقيقه بمعنى: يقال تذكرة ما صنعت. وذكرت ما صنعت بمعنى: قال ذكره: { { ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ } [البقرة: 40] بمعنى: تذكروا نعمتي، أي: تفكروا فيها واعتبروا. وقال: { وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ } [البقرة: 63] وقَالَ: { { [كَلاَّ] إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [عبس: 11-12] و { { مَّا تَذَكَّرُونَ } [الحاقة: 42]" فكله بمعنى الاتعاظ والاعتبار لا بمعنى ذكر النسيان. وليس من خفف يجعله من ذكر النسيان وإنما هو من التفكر والاعتبار كالمشدد.
ثم قال [تعالى]: { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ }.
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جعلوا مع الله ءالهة: لو كان الأمر كما تقولون من أن مع الله [سبحانه] ءالهة إذن لابتغت تلك [الآلهة] القربى من الله [عز وجل] ذي العرش العظيم، والتمست الزلفى عنده [جلّت عظمته].
قال قتادة معناه: إذن لعرفوا له فضله فابتغوا ما يقربهم إليه. وقال ابن جبير معناه: إذن لطلبوا إليه طريقاً للوصول ليزيلوا ملكه. وقيل معنى ذلك: إذن لطلبوا الربوبية وضادوه في ملكه كما يفعل ملوك الدنيا.
ثم قال تعالى: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ }. ينزه نفسه عما قالوا وافتروا.
و "كلوا": مصدر. جاء على غير الـ[ـمـ]ـصدر. ولو جاء على صدر الكلام لكان تعالياً، ولكنه مثل { { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [المزمل: 8] ومثل" { أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [نوح: 17].
ثم قال تعالى: { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ }.
أي: تنزهه من السوء الذي وصفه به المشركون و "من فيهن"، يعني: من في السماوات والأرض من الملائكة والجن والإنس.
ثم قال: { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ }.
روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه؟ إن نوحاً قال لابنه: يا بني آمرك [أن تقول سبحان الله بحمده فإنها صلاة] الخلق وتسبيح الخلق وبها يرزق الخلق، قال الله [عز وجل]: { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ }" .
وعن النخعي أنه قال: الطعام: يسبح. وقال قتادة: كل شيء فيه روح يسبح / من شجرة وغيرها.
وقيل معنى ذلك: أن ما من شيء إلا يدل على توحيد الله وينزهه من السوء، فذلك تسبيحه.
وقال الحسن: كل شيء فيه روح يسبح بحمده.
{ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } أي: لا تعقلون ذلك.
وروى معاذ بن محمد الأنصاري أن النبي عليه السلام قال: "لا تقتلوا الضفادع فإنه ليس لله [عز وجل] خلق أكثر تسبيحاً منها".
وذكر أبو عبيد أن داوود صلى الله عليه وسلم بات داعياً لربه [عز وجل] ومصلياً حتى أصبح فذهب إلى نهر ليتوضأ، فقال: الحمد لله لقد عبدت الله الليلة عبادة ما عبده أحد مثلها من أهل الأرض. فكلمته ضفدع من الماء فقالت له: كلا يا أبا سليمان، فوالله إنه لي ثلاثاً من الدهر ما جمعت [ما] بين فقمي تسبيحاً لله [عز وجل].
واختلف الناس في تسبيح الموات كالجبال والحيطان [وشبه ذلك]: فقال قوم: تسبيح ذلك ما فيه من دلالة على خالقه ومشيئته، ومنه قوله: { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [البقرة: 74] يعني: يتبين في ظاهره من قدرة الله [عز وجل] على خلقه ما يضاهي الخشية لله والإقرار بقدرته.
وقال آخرون: تسبيح الموات أنها تدعو الناظر إليها والمتأمل لخلقها إلى تسبيح الله [تعالى] والنطق بعظمته. فنسب التسبيح إلى الموات لما كانت تنسبه.
كما قالت العرب له: إبل تنطق الناس أي إذا نظروا إليها نطقوا تعجباً منها، من كثرتها، فقالوا سبحان الله! ما أكثرها! ما أحسنها!
و [قال] آخرون وهم أصحاب الحديث وكثير من العلماء. الأشياء كلها تسبح، الموات وغيره، والله [عز وجل] يعلم تسبيح كل صنف منها، وقد كلمت الحجارة والأشجار والجمادات الأنبياء [عليهم السلام، وكذلك البهائم كلمت الأنبياء وكلمت من كان في عهد الأنبياء. والروايات بذلك كثيرة مشهورة. وهذا باب يتسع فيه الكلام لكثرة الشواهد عليه.
ثم قال تعالى: { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }.
أي: حليماً لا يعجل على خلقه المفترين عليه. "غفوراً" أي: ساتر[اً] لذنوب من آمن [به] منهم. قال قتادة: حليماً: أي: لا يعجل كعجلة بعضهم على بعض.