تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه
قوله: { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } إلى قوله: { مُرْتَفَقاً }.
المعنى: أن الله جل ذكره أمر نبيّه عليه السلام أن يقول لمن تقدم ذكره في قوله { { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } [الكهف: 28] الحق من ربكم أي الهدى والتوفيق والخذلان من عند الله يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن، ويضل من يشاء فيخذله فيكفر، وليس إلي من ذلك شيء، ولست بطارد لهواكم من وفقه الله [عز وجل] فآمن، فإن شئتم فاكفروا وإن شئتم فآمنوا. فإن كفرتم فقد أعد لكم [ربكم] ناراً أحاط [بهم] سرادقها.
وقوله { فَلْيُؤْمِن } و { فَلْيَكْفُرْ } لفظه لفظ الأمر ومعناه التهدد والوعيد. ومثله
{ { تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ } [هود: 65] وقوله: { وَلِيَتَمَتَّعُواْ } [العنكبوت: 66] وشبهه كثير.
والأمر من الله [عز وجل] على أقسام: فمنه ما معناه الإيجاب والإلزام نحو
{ { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ } [المائدة: 6] الآية، وشبهه. فهذا لا بد من فعله ويأثم من تركه، ويكفر إن عاند في تركه.
ومنه ما معناه التأديب والإرشاد نحو قوله: { { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } [النور: 32] وقوله: { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [البقرة: 282] وفيه اختلاف. فهذا لا يخرج المأمور بتركه إلى إثم. وإن تأدب به وعمله فقد أحسن، إذ قد اتبع ما ندبه الله [عز وجل] إليه.
ومنه ما معناه الاباحة [والاطلاق نحو قوله: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } [المائدة: 2] وقوله:] { { فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [الجمعة: 10] { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ } [البقرة: 222] فهذا إن شاء [فعله، وإن شاء] لم يفعله، ولا يشكر على فعله، ولا يندم على تركه.
ومنه / ما معناه الحتم والتكوين والإحداث نحو قوله: { كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة: 65] وقوله: { { كُنْ فَيَكُونُ } [البقرة: 117 ويس: 82] فهذا تكوين وإحداث. ويوجد المأمور فيه مع الأمر ولا يتقدم ولا يتأخر.
وكل أوامر النبي [صلى الله عليه وسلم] على هذه الأقسام تأتي إلا التكوين والإحداث فليس يكون إلا لله عز وجل، غير أنه قد يكون ذلك على أيدي أنبيائه دلالة على صدقهم. كقول نبينا صلى الله عليه وسلم لشجرة دعاها: "أقبلي" فأقبلت تجري عروقها وأغصانها حتى وقفت بين يديه، ثم قال: لها: "ارجعي" فرجعت إلى مكانها، وشبهه كثير. وهذه الأوامر إنما يميز الواجب منها [من غيره] بالبراهين والدلائل والتوقيف لا غير.
وقوله: { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا }.
قال: ابن زيد: هو حائط من نار يحيط بهم كسرادق الفسطاط، وقاله ابن عباس. وقال: معمر: هو دخان يحيط بالكفار يوم القيامة وهو الذي قال: الله: [عز وجل] { { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ } [المرسلات: 30].
وقيل هو البحر المحيط الذي في الدنيا، أي: أحاط بهم سرادق الدنيا أي: بحرها المحيط.
وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "البحر هو جهنم وتلا هذه الآية. وقال: لا أدخله أبداً وما دمت حياً، ولا تصيبني منه قطرة" فيكون معناها أحاط بهم أي عمهم.
وروى [عنه] أبو سعيد الخدري أنه قال: "سرادق النار أربع جدر، كتف كل واحد منها مسيرة أربعين سنة" .
ثم قال: { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ }.
أي إن يستغيثوا من العطش يغاثوا بماء كالمهل أي "كعكر الزيت. فإذا قربه من فمه سقطت فروة وجهه فيه" كذا رواه الخدري عن النبي عليه السلام.
وعن ابن مسعود: أن المهل هو كفضة وذهب أذيبا واختلطا. وقال: مجاهد: "كالمهل" كالقيح والدم الأسود إذا اختلطا. وقال: ابن عباس: المهل ماء غليظ مثل دُرَدَيّ الزيت.
وقال: الضحاك: المهل ماء جهنم أسود، وهي سوداء، وشجرها أسود وأهلها سود. وقال: ابن جبير: المهل الذي قد انتهى حره. وقيل: المهل عكر القطران.
وعن النبي عليه السلام أنه قال: "المهل صديد أهل جهنم إذا دني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ولحم وجهه من حره" .
والمهل عند أهل اللغة: كل شيء أذبته من رصاص أو نحاس ونحوه.
ثم قال: { يَشْوِي ٱلْوجُوهَ }.
وقال: ابن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم فيأكلون منها فاختلست جلودهم ووجوههم. فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم لعرف جلود وجوههم. فيتضاعف عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل. فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حره لحوم / وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.
وقوله: { بِئْسَ ٱلشَّرَابُ }.
أي بئس الشراب هذا الذي يغاث به هؤلاء القوم.
وقوله: { وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً }.
أي ساءت هذه النار التي أعدت لهؤلاء الظالمين: { مُرْتَفَقاً } أي متكئاً. والمرتفق في كلام العرب المتكا. يقال: ارتفقت أي: اتكأت.. وقال: مجاهد "مرتفقاً" مجمتعاً" وهو مفتعل من الرفق.
قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ [مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً] } إلى قوله: { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً }.
أي [إن] الذين صدقوا محمداً [صلى الله عليه وسلم] وما أتى به وعملوا بما جاءهم [به] لا نضيع ثواب من أحسن عملاً.
وخبر إن الأول قوله: { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } على تقدير من أحسن عملاً منهم. وحذفت "منهم" لأن الله قد أخبرنا أنه محبط عمل غير المؤمنين. وقيل التقدير: إنا لا نضيع أجرهم. وقيل: الخبر أولئك لهم جنات عدن.
وروي "أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات على ناقته الصهباء عن قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ } الآية. فقال: النبي [صلى الله عليه وسلم]: يا أعرابي: ما أنت منهم وما هم منك ببعيد. هؤلاء الأربعة الذين هم وقوف معي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. فاعلم قومك أن هذه الآية نزلت في هؤلاء الأربعة" .
ولا تقف على { عَمَلاً } إن جعلت الخبر { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } وإن جعلت الخبر: { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } وقفت عليه.
ثم قال: تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ }.
أي جنات إقامة لا زوال منها. { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ } أي من دونهم الأنهار. كما يقال: داري تحت دارك، أي دونها. وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كعباً. فقال: [له]: إني سمعت الله [عز وجل] يذكر جنات عدن، فما عدن؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هو قصر في الجنة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل. فقال: عمر: أما النبوة فقد جعلها [الله عز وجل] في أهلها، وأما الصديق فوالله إني لأرجو أن [أكون] قد صدقت بالله [عز وجل] وبرسوله، وأما الحكم العدل فوالله إني لأرجو أن أكون ما فرقت في حكم أحداً، وأما الشهادة فأنّى لي بالشهادة؟ قال: الحسن فجمعهن الله [عز وجل] والله له ثلاثتهن. فجعله: صديقاً، حكماً عدلاً، شهيداً.
وقوله: { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ }.
أساور جمع [أسورة، وأسورة جمع] سِوار وسُوار يقال: بالضم والكسر. وحكى قطرب إسوار. وإن أساور جمع أسوار على حذف الياء لأن أصله أساوير على هذا. والمعروف أن إسوار واحد أساورة الفرس.
وقوله: { وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ }.
قال: الكسائي: السندس جمع سندسة. وقال: واحد العبقري عبقرية وواحد الرفرف: رفرفة، وواحد الأرائك: / أريكة.
والسندس ما رقَّ من الديباج، والإستبرق ما ثخن منه وغلظ. والأرائك السور في الحجال، وقيل: هي الفرش في الحجال.
ثم قال: { نِعْمَ ٱلثَّوَابُ } أي نعم الثواب [في] جنات عدن وما وصف فيها لمن ذكر. { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } أي حسنت هذه الأرائك والجنات التي وصف الله [عز وجل] في هذه الآية { مُرْتَفَقاً } أي متكئاً.