خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ
٣٧
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ ٱلْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٣٨
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٣٩
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
٤٠
وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً
٤١
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً
٤٢
يٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِيۤ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً
٤٣
يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً
٤٤
يٰأَبَتِ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً
٤٥
-مريم

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى ذكره: { فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ } إلى قوله: { لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً }.
أي: فاختلف المختلفون بعد رفع عيسى صلى الله عليه وسلم. فصاروا أحزاباً، وقد ذكر اختلافهم كيف كان.
ثم قال: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ }.
أي: وادٍ في جهنم للكافرين الذين زعموا أن عيسى إله، والذين زعموا أنه ابن الله. { مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } يعني يوم القيامة.
ثم قال: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا }.
أي: ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة إذا عاينوا ما لا يحتاج إلى فكر ولا رؤية. وقد كانوا في الدنيا عمياً عن إبصار الحق، صماً عن سماع الهدى.
قال قتادة: سمعوا حين لا ينفعهم السمع، وأبصروا حين لا ينفعهم البصر.
قال ابن زيد: كانت في الدنيا على أبصارهم غشاوة، وفي آذانهم وقر، فلما كان يوم القيامة، أبصروا، وسمعوا فلم ينتفعوا، وقرأ
{ { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً } [السجدة: 12].
ثم قال تعالى ذكره: { لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ ٱلْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي: لكن الكافرون في الدنيا في ذهاب مبين عن سبيل الحق.
و { يَوْمَ يَأْتُونَنَا } وقف حسن. والعامل فيه "أسمع بهم وأبصر" أي: ما أبصرهم وأسمعهم في هذا اليوم، أي: هم ممن يقال ذلك فيهم، ففيه معنى التعجب، ولفظه، لفظ الأمر، ولا ضمير في الفعلين، إذ ليس بأمر للمأمور، إنما هو لفظ وافق لفظ الأمر، وليس به.
ثم قال: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ } أي: أنذر هؤلاء المشركين يوم حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا في جنب الله إذا رأوا مساكنهم في الجنة قد أورثها الله أهل الإيمان به، وعوضوا منها منازل في النار، وأيقن الفريقان في الخلود.
قال ابن مسعود: ليس نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة، وبيت في النار، وهو يوم الحسرة، فيرى أهل النار البيت الذي في الجنة فيقال: لو آمنتم، فتأخذهم الحسرة، ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار، فيقال لهم: لولا ما منّ به الله عليكم.
وقيل: { يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ } يوم يعطى كتابه بشماله.
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يجاء بالموت فيوضع بين الجنة والنار كأنه كبش أملح. قال: فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، فيقولون: نعم هذا الموت. قال: فيقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون فيقولون: نعم، هذا الموت. ثم يؤمر به فيذبح. قال: فيقول: يا أهل الجنة، خلود بلا موت، ويا أهل النار، خلود بلا موت. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ } الآية. وأشار بيده في الدنيا" يريد الغفلة في الدنيا.
وكذلك رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"يؤتى بالموت يوم القيامة، فيوقف على الصراط. وقال في أهل الجنة، فيطلعون خائفين وجلين أن يخرجوا من مكانهم، وقال في أهل النار، فيطلعون فرحين مسرورين، رجاء أن يخرجوا من مكانهم. وقال فيذبح على الصراط" .
قال ابن عباس: "يصور الله الموت كأنه كبش أملح. فيذبح، فييأس أهل النار من الموت، فلا يرجونه، فتأخذهم الحسرة من أجل الخلود في النار، ويأمن أهل الجنة الموت، فلا يخشونه".
وقال ابن عباس: "يوم الحسرة" من أسماء يوم القيامة، عظّمه الله وحذره عباده.
ومعنى: { إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ } إذ فرغ من الحكم لأهل النار بالخلود فيها ولأهل الجنة بالخلود [فيها]./
وقوله: { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ } أي: هؤلاء المشركون في غفلة عما الله فاعل بهم يوم القيامة.
{ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي: لا يصدقون بآيات الله ولا بالرجوع إليه يوم القيامة.
ثم قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا }. أي: نفني من على الأرض، فتبقى لا مالك لها غيرنا.
{ وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }.
أي: يرد هؤلاء المشركون وغيرهم، فيجازي كلاً بعمله. والمعنى: إلى حكم الله يرجعون وقضائه فيهم ومجازاتهم. لم يرد برجوعهم إليه، إلى مكانه، ولا إلى ما قرب منه، إنما رجوعهم إلى جزائه وحكمه فيهم. وكذلك كل ما شابهه.
{ قُضِيَ ٱلأَمْرُ } وقف، إلا أن يجعل "وهم في غفلة" في موضع الحال فلا يقف على ذلك. والتمام "يؤمنون".
ثم قال تعالى: { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً }.
أي: أتل على هؤلاء قصص إبراهيم وأبيه التي أخبرناك بها في الكتاب المنزل عليك، وكذلك معنى قوله: { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ } في كل موضع، إنما معناه اذكر لقومك ما أنزل عليك في القرآن من قصة إبراهيم، وموسى وغيرهما.
{ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } أي: كان من أهل الصدق في حديثه وأخباره ومواعيده. "نبيئاً" أي: تنبأه الله وأوحى إليه.
ولا يوقف على "نبي" لأن "إذ" متعلقة بما قبلها.
{ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ }.
أبتِ عند سيبويه لا تقع بالتأنيث إلا في النداء. ويكون للمذكر والمؤنث. و "التاء" عنده عوض من ياء الإضافة. ولذلك لا يجمع بينهما. ووقف ابن كثير بالهاء، وجميع القراء غيره يقفون بالتاء، لأنه مضاف في التقدير.
وقرأ ابن عامر بفتح التاء على تقدير يا أبتاه، فحذف الهاء لأنه واصل وحذف الألف كما تحذف ياء الإضافة، لأنها بدل منها.
وقيل: إنه أبدل من كسرة "التاء" فتحة، ومن "الياء" التي كانت في الأصل ألفاً. ثم حذف الألف، إذ لا يجمع بين الياء والتاء، والألف عوض من الياء. فكما لا تثبت الياء مع التاء، كذلك لا تثبت الألف التي هي عوض من الياء. وهذا القول أشبه من الأول، وفيهما نظر.
وقوله: { مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ } يعني الأصنام، لا يسمعك إذا دعوته، ولا يبصرك إذا أجبته ولا يغني عنك شيئاً: إن نزل بكل أمر أو ضر لم ينفعك ولا دفع عنك شيئاً.
ثم قال: { يٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ }. يعني: الوحي الذي أوحى الله إليه.
{ فَٱتَّبِعْنِيۤ } أي: أقبل قولي، وما أدعوك إليه.
{ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } أي: أبصرك وأرشدك الطريق المستوي الذي لا تضل فيه إن لزمته.
ثم قال: { يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ }.
أي: لا تطعه فيما يأمرك به فتكون بمنزلة من عبده.
{ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً }.
أي: عاص. و "عصياً"، فعيل بمعنى فاعل. لام الفعل "ياء" أدغمت فيها "ياء" فعيل.
ثم قال: { يٰأَبَتِ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ } الآية... أي: إني أعلم أنك، إن مت على عبادة الشيطان، أن العذاب يمسك فتكون للشيطان ولياً دون الله. فالخوف هنا بمعنى العلم. كما تقع الخشية بمعنى العلم في قوله:
{ { فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } [الكهف: 80].