قوله تعالى ذكره: { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ }. إلى { وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً }.
"ذِكْر" مرفوع عند الفراء على خبر { كۤهيعۤصۤ }. ورد هذا القول الزجاج، لأن { كۤهيعۤصۤ } ليس مما أثنى الله به على زكريا، وليس "كهيعص" في شيء من قصة زكريا. وقال الأخفش: التقدير: وفيما يتلى عليكم، ذكر رحمة ربك عبده زكرياء.
و [قيل] التقدير: هذا الذي يتلى عليك، ذكر رحمة ربك عبده زكريا. والتقدير: وفيما يتلى عليك يا محمد، ذكر ربك عبده زكريا برحمته.
قوله: { نِدَآءً خَفِيّاً }.
أي: دعاه سراً كراهية الرياء. قاله ابن جريج وغيره.
وقال السدي: رغب زكريا في الولد، فقام يصلي، ثم دعا ربه سراً فقال: "ربِّ إنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنَّي" إلى قوله "واجْعَلْهُ رّبِّ رَضِيّاً".
ومعنى "وَهَنَ الْعَظْمُ" ضعف ورق من الكبر.
وقوله: { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً }.
أي: كثر الشيب في الرأس. ونصب "شيباً" على المصدر، لأن معنى اشتعل، شاب.
وقال الزجاج: نصبه على التمييز. أي: اشتغل من الشيب.
وروى أبو صالح عن ابن عباس أن زكريا كان من أولاد هارون من أجل أحبار بني إسرائيل، ثم تنبأه الله جلّ ذكره.
قوله: { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً }.
أي: لم أشق بدعائي إياك قط، لأنك عودتني الإجابة إذا دعوتك حاجتي.
ثم قال تعالى حكاية عنه: { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى } أي: إني خفت بني عمي وعصبتي من بعدي أن يرثوني.
وقيل: "من [ورائي": من قدامي].
قال ابن عباس /: الموالي هنا، الكلالة الأولياء، خاف أن يرثوه، فوهب الله له يحيى.
وقيل: إنما خاف أن تقطع النبوة من ولده، وترجع إلى عصبته من غير ولد يعقوب، فأجاب الله دعاءه بعد أربعين سنة فيما ذكر ابن وهب وغيره.
وقيل: بعد ستين سنة.
وقيل: معناه، خفت بني عمي عن الدين: يعني شرارهم فسأل الله تعالى في ولد يقوم بالدين بعده، ويرث النبوة من آل يعقوب، وقال أبو صالح، خاف موالي الكلالة. والموالي والأولياء سواء في كلام العرب.
وقيل للعصبة موالي، لأنهم يلون الميت في النسب.
وروي عن عثمان (رضي الله عنه) أنه قرأ { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى } (بفتح الخاء، وتشديد الفاء، وإكسار التاء وإسكان الياء) وهي قراءة زيد بن ثابت وسعيد بن جبير، جعل الفعل للموالي، أي: إني قَلَّتْ الموالي الأولياء من بعدي فليس لي وارث.
ثم قال: { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً }.
أي: هب لي وارثاً ومعيناً يرثني في مالي، و "يَرِثُ من آل يعقوب"، يعني النبوة. وكان زكريا (عليه السلام) من ولد يعقوب، وهو زكريا بن آذن، وعمران بن ماثان من ولد أيوب النبي صلى الله عليه وسلم. من سبط يهوذا بن يعقوب، وكان زكريا وعمران في زمن واحد، فتزوج زكريا أشياع بنت عمران أخت مريم ابنة عمران، واسم أمها - امرأة عمران - حنة. فيحيى وعيسى ابنا خالة. وكان زكريا نجاراً. وكفل مريم بعد موت أبيها، لأن اختها عنده، ولأن قلمه خرج دون أقلامهم. فلما حملت مريم بعيسى، أشاعت اليهود أنه ركب من مريم الفاحشة فقتلوه في جوف شجرة، فقطعوه وقطعوها معه.
قال قتادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية وأتى على { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } قال: "يرحم الله زكريا ما كان عليه من ورثه، ويرحم الله لوطاً. إن كان ليأوي إلى ركن شديد.
وقال السدي: "يرثني ويرث من آل يعقوب" أي: يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب.
وقيل: يرث حكمتي، ويرث نبوة آل يعقوب.
وقد أنكر قوم وراثة النبوة إلا بعطية من الله، ولو ورثت بالنسب لكان الناس كلهم أنبياء، لأنهم أولاد نبي وهو آدم ونوح. وأنكر آخرون وراثة المال في هذا لقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة" . وهذا الحديث يجب أن يكون حكمه مخصوصاً للنبي (صلى الله عليه وسلم)، وأخبر عن نفسه على لفظ الجماعة.
وفي بعض الروايات: "إِنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة" . ويحتمل أن تكون هذه شريعة كانت ونسختها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بمنع وراثته.
وقال القتبي: معناه: يرثني الحبورة.
ثم قال: { وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً }.
أي: ترضاه أنت ويرضاه عبادك، ديناً وخلقاً وخُلقاً, وهو فعل مصروف من مفعول. وأصله رضيو، منقول من مرضي وأصل مرضي، مرضو. ثم رد إلى الياء لأنها أخف.