تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه
قوله تعالى ذكره: { وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ ٱلْقَيُّومِ } إلى قوله: { زِدْنِي عِلْماً }.
قال ابن عباس: { عَنَتِ }: ذلت أي: استسلمت.
وقال مجاهد: { عَنَتِ } خشعت.
وقال طلق بن حبيب: هو وضعك جبهتك وأنفك وركبتك وكفيك وأطراف قدميك في السجود. فهذا يراد به أنها عنت في الدنيا، والأقوال غير هذا يراد بها الآخرة.
وقال ابن زيد: { عَنَتِ } استأسرت للحي القيوم. أي: صاروا أسارى.
وقال الفراء: { عَنَتِ } الوجوه نصبّ وعملته، والعاني الأسير.
وهذا قول أهل اللغة، أن العاني الأسير، سمي بذلك لأنه يذل ويخضع.
ومنه الحديث: "النساء عندكم عوان" ومنه: افتتحت الأرض عنوة، ومنه: عنيت فلانا.
ثم قال تعالى: { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً }.
أي: قد خسر من حمل يوم القيامة شركاً بالله، قاله: قتادة وابن زيد وغيرهما.
ثم قال تعالى: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً }.
أي: مَن يؤد الفرائض التي افترض الله عليه، وهو مصدق بالله وملائكته وكتبه ورسله، فلا يخاف ظلماً، أي: لا يخاف أن تحمل عليه سيئات غيره ويعاقب عليها.
{ وَلاَ هَضْماً } أي: نقصاً من ثوابه. قاله قتادة وغيره.
ومن قرأ: فلا يخف بالجزم، جعله نهياً، نهاه الله جل ذكره عن الخوف من أن يصيبه ظلم أو هضم.
وقال ابن جريج /: { ٱلصَّالِحَاتِ } هنا: الفرائض.
وقال الضحاك: { وَلاَ هَضْماً }: هو أن يقهر الرجل الرجل بقوته وأصل الهضم، الانتقاص. يقال: هضمني فلان حقي، أي: نقصني، ومنه امرأة هضيم الكشح، أي: ظاهرة البطن. وهذا دواء يهضم الطعام. أي: ينقصه، فيزول ثقله.
ثم قال تعالى ذكره: { وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ ٱلْوَعِيدِ }.
المعنى: كما رغب أهل الإيمان في صالح الأعمال فوعدهم ما وعدهم، كذلك حذر بالوعيد أهل الكفر، فقال: { وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } أي: أنزلناه بلغتكم أيها العرب لتفهموه. { وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ ٱلْوَعِيدِ } أي: وخوفناهم بضروب من الوعيد { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ما فيه من الوعيد أو يحدث لهم ذكراً فينقلبون عما هم مقيمون عليه من الكفر بالله، يعني: أو يحدث لهم القرآن ذكراً.
قال قتادة: "ذكرا": ورعاً.
وقيل: معناه: أو يحدث لهم شرفاً بإيمانهم به، كما قال: { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } أي: شرفكم إن آمنتم به. روي ذلك أيضاً عن قتادة.
ثم قال تعالى ذكره: { فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ } أي: فتعالى الله الذي له العبادة من جميع خلقه، ملك الدنيا والآخرة جميعاً على ما يصفه به المشركون من خلقه.
ثم قال تعالى: { وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ }.
أي: لا تعجل بالقرآن فتقرئه أصحابك أو تقرأه عليهم من قبل أن يقضى إليك وحيه، أي: بيان معانيه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يكتب القرآن أو يتلوه على أحد حتى يبينه له، قاله: ابن عباس وقتادة.
وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعجل القراءة من قبل أن يفرغ جبريل مما يأتيه به، خوف النسيان. ومنه { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } [القيامة: 16].
{ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } أي: زدني علماً إلى ما علمتني. أمره الله تعالى أن يسأل ذلك.
وذكر ابن وهب أن الحسن قال: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "إن زوجي لكم وجهي" قال لها: بينكما القصاص، فأنزل الله تعالى: ولا تعجل بالقرآن... الآية. فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: { ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [النساء: 34].