خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ
١١
فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ
١٢
لاَ تَرْكُضُواْ وَٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ
١٣
قَالُواْ يٰوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
١٤
فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ
١٥
وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ
١٦
لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ
١٧
بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ
١٨
وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ
١٩
يُسَبِّحُونَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ
٢٠
أَمِ ٱتَّخَذُوۤاْ آلِهَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ
٢١
لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ
٢٢
لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ
٢٣
-الأنبياء

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى: { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً } إلى قوله: { عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }.
المعنى: وكثيراً أهلكنا من أهل القرى كانوا ظالمين بكفرهِم فـ "كم" في موضع نصب بقصمنا، وهي خبر، وفيها معنى التكثير. وانقصم أصله الكسر. يقال انقصم سنه، وقصمت ظهر فلان، أي: كسرته.
وروى ابن وهب عن بعض رجاله، أنه كان باليمن قريتان، فبطر أهلها وأترفوا حتى ما كانوا يغلقون أبوابهم، فبعث الله تعالى إليهم نبياً فدعاهم، فقتلوه، فألقى الله في نفس بخت نصر غزوهم، فبعث إليهم جيشاً، فهزموه، ثم بعث آخر فهزموه. فخرج إليهم بنفسه، فهزمهم، فخرجوا يركضون فسمع مناد يقول: { لاَ تَرْكُضُواْ وَٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ }. فرجعوا، فسمعوا صوتاً يقول: يا لثارات النبي فقتلوا كلهم. فهي التي عنى الله في هذه السورة حصدوا بالسيف.
قال مجاهد: "قصمنا": أهكلنا. وجرى الخبر عن القرية والمراد أهلها، لأن المعنى مفهوم.
ثم قال: { وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ } أي: أحدثنا بعد إهلاك هؤلاء الظالمين قوماً آخرين سواهم.
ثم قال: { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ }.
أي: فلما عاين هؤلاء الظالمون من أهل القرى العذاب، ووجدوا مسه، إذا هم مما أحسوا يركضون. أي: يهربون سراعاً يعدون. وأصله من ركض الدابة إذا حركت رجليك عليها فعدت.
فقوله: { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ }.
لا يرجع إلى قوله: { قَوْماً آخَرِينَ } لأنه لم يذكر لهم ذنباً يعذبون من أجله، لكنه راجع إلى قوله: { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً }.
ثم قال: { لاَ تَرْكُضُواْ }.
أي: لا تفروا ولا تهربوا. { وَٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ }. أي: إلى ما أنعمتم فيه من عيشكم وإلى، { وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } أي: تسألون عن دنياكم شيئاً. على وجه السخرية بهم والاستهزاء. قاله: قتادة.
وقال مجاهد: { لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } أي: تنتهون.
وقيل: معناه: لعلكم تسألون شيئاً مما شغلكم عما لكم فيه الصلاح، على التهدد.
وقيل: معناه: لعلكم تسألون عما نزل بكم من العقوبة وعاينتموه من العذاب.
ثم قال تعالى: { قَالُواْ يٰوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }.
أي: قالوا لمّا حلَّ عليهم العذاب: يا ويلنا. وهي كلمة يقولها من وقع في هلكة وتقال لمن وقع في هلكة.
{ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } بكفرنا بربنا.
ثم قال تعالى: { فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ }.
أي: فما زالت تلك الكلمة دعواهم وهي الدعاء بالويل، والإقرار بالظلم.
{ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ }.
أي: حتى هلكوا فحصدوا من الحياة كما يحصد الزرع فصاروا مثل الحصيد من الزرع. { خَامِدِينَ } أي: قد سكنت حركتهم كما تخمد النار فتطفأ.
قال الضحاك ومقاتل ومجاهد: "حصدوا قتلاً بالسيف".
قال قتادة: "لما عاينوا العذاب، لم يكن لهم هِجِّيرَي إلا قولهم: يا ويلنا، إنا كنا ظالمين. حتى دمّر الله تعالى عليهم فأهلكهم.
قال ابن عباس: "خامدين خمود النار، أي طفئت ولم ينتفعوا بالإيمان والندم / عند معاينة العذاب، لأنه وقت قد رفع عنهم فيه التكليف. وإذا رفع التكليف، ارتفع القبول. وإنما القبول منوط بالتكليف.
ثم قال تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ }.
أي: ما خلقناهما لعباً وعبثاً، إنما خلقناهما حجة عليكم أيها الناس، لتعتبروا وتعلموا أن الذي خلقهما ودبرهما لا يشبهه شيء، وإنه لا تكون العبادة إلا له.
وقيل: المعنى، ما خلقناهما وما بينهما لعباً ولا باطلاً، أي: ليظلم بعض الناس بعضاً، ويكفر بعضهم، ويخالف بعضهم ما أمر به، ثم يموتوا فلا يجازون بأفعالهم.
وقيل: المعنى: ما خلقناهما لعباً، بل خلقناهما ليؤمر الناس بحسن وينهوا عن قبح.
ثم قال تعالى: { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً }.
أي: زوجة وولداً، { لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ } أي: من عندنا. أي مما نخلق. لكنا لا نفعل ذلك، ولا يصلح لنا فعله.
قال الحسن: اللهو: المرأة. وقاله مجاهد.
وقال قتادة: اللهو بلغة أهل اليمن - المرأة.
وقال ابن عباس: "لهواً: ولداً".
وقيل: لهواً: نكاحاً.
وقوله: { إِن كُنَّا فَاعِلِينَ }.
أي: ما كنا فاعلين. قاله قتادة.
وقيل: إن: للشرط. والتقدير: إن كنا فاعلين، ولسنا ممن يفعله.
وقال ابن جريج: "قالوا: مريم صاحبته، وعيسى ولده. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فأنزل الله: { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ } الآية.
ومعنى: "من لدنا" عند ابن جريج: "من عندنا من أهل السماء ولم نتخذه من أهل الأرض الذين تلحقهم الآفات والنقص".
{ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } أي: ما كنا نفعل ذلك.
ثم قال تعالى: { بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ }.
قال مجاهد: الحق: القرآن، والباطل الشيطان. وكذلك كل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان عنده. وتقديره في العربية ذو الباطل فتقديره: بل ننزل القرآن على الكفر وأهله { فَيَدْمَغُهُ } أي: فيهلكه. ولذلك قيل للشجة التي تبلغ الدماغ: (الدامغة) وقيل من سلم منها.
قوله { فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ }.
أي: ذاهب مضمحل.
ثم قال تعالى: { وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ }.
أي: ولكم الويل من وصفكم ربكم بغير صفته بقولكم: إنه اتخذ ولداً وزوجة.
وقيل: معناه: ولكم واد في جهنم يستعيذ أهل جهنم منه.
ثم قال تعالى: { وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ }.
أي: كيف يجوز أن يتخذ ولداً من له من في السماوات والأرض، ومن عنده من الملائكة الذين ادعيتم أنهم بنات الله لا يستكبرون عن عبادتهم إياه { وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } أي: ولا يعيون ولا ينقطعون عن عبادته.
"وعند" في هذا بمعنى: قرب المنزلة عند الله لهم، وليس بمعنى قرب المسافة، لأنه لا تحويه الأمكنة فقد علمتم أنه ليس يستعبد والد ولده، ولا صاحبته، وكل من في السماوات والأرض عبيده، فكيف يكون له صاحبة وولد، أفلا تتفكرون فيما تفترون من الكذب على ربكم.
ثم قال تعالى: { يُسَبِّحُونَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ }. أي: لا يكلون من تسبيحهم.
قال كعب: "التسبيح لهم بمنزلة النفس لبني آدم".
وعنه أنه قال: "ألهموا التسبيح كما ألهمتم الطرف والنفس".
وذكر علي بن معبد أن عمر بن الخطاب قال لكعب: خوفنا يا كعب. فقال: "إن لله عز وجل ملائكة من يوم خلقهم قيام، ما ثنوا أصلابهم، وآخرين ركوعاً ما رفعوا أصلابهم، وآخرين سجوداً ما رفعوا رؤوسهم حتى ينفخ في الصور النفخة الآخرة، فيقولون جميعاً: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك كما ينبغي لك أن تعبد ثم قال: والله لو أن رجلاً عمل عمل سبعين نبياً لاستقل عمله من شدة ما يرى يومئذ، والله لو دلي من غسلين دلو واحد من مطلع الشمس، لغلت منه جماجم قوم في مغربها والله لتزفرن جهنم زفرة ولا يبقى ملك مقرب إلاّ خرّ جاثياً على ركبتيه".
وروى ابن المبارك في حديث عن بعض شيوخه: "أن ملكاً لما استوى الرب جل ذكره على عرشه سجد فلم يرفع رأسه ولا يرفعه إلى يوم القيامة. فيقول يوم القيامة: لم أعبدك حق عبادتك، إلا أني لم أشرك بك شيئاً، ولم أتخذ من دونك ولياً".
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: "إن الله جزأ الخلق عشرة أجزاء، فجعل الملائكة تسعة أجزاء، وسائر الخلق جزء. وجزأ الملائكة / عشرة أجزاء فجعل تسعة أجزاء يسبحون الليل والنهار لا يفترون وجزءاً لرسالته. وجزأ سائر الخلق عشرة أجزاء فجعل الجن تسعة أجزاء، وسائر بني آدم جزءاً. وجزأ بني آدم عشرة أجزاء، فجعل يأجوج ومأجوج تسعة أجزاء، وسائر بني آدم جزءاً".
وعنه أيضاً أنه قال: "الملائكة عشرة أجزاء، تسعة أجزاء منهم الكروبيون الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وجزءاً واحداً لرسالته ولما شاء من أمره".
وقال ابن عباس: "كل تسبيح في القرآن، يعني: به الصلاة".
ثم قال تعالى: { أَمِ ٱتَّخَذُوۤاْ آلِهَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ }.
أي: اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض: { هُمْ يُنشِرُونَ } أي: هذه الآلهة تحيي الموتى. بل الله هو الذي يحيي الموتى.
وقرئ { هُمْ يُنشِرُونَ } بفتح الياء. والمعنى: هم يحيون فلا يموتون أبداً، كالله الحي الذي لا يموت.
ثم قال تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا }.
أي: لو كان في السماوات والأرض آلهة غير الله. و "إلا" بمعنى: غير: فاعرب الاسم الذي بعد "إلا" كإعراب "غير" لو ظهرت فرفع. هذا مذهب البصريين وسيبويه.
وقال الفراء: "إلا" بمعنى سوى. ومعنى الآية: لو كان المعبود آلهة أو إلهين لفسد التدبير، لأن أحدهما يريد ما لا يريد الآخر، فإذا تم ما أراد أحدهما، عجز الآخر. والعاجز لا يكون إلهاً. وإذا فسد وجود إلهين أو آلهة، ولم يكن بد من خالق مقدر للأشياء، يقدم المقدم منها، ويؤخر المؤخر منها، ويوجدها بعد عدمها، ثبت أنه واحد.
ثم قال تعالى: { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي: فتنزيه لله تعالى وتبرئة له عما يفتري عليه هؤلاء المشركون من الكذب.
ثم قال تعالى: { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }.
أي: لا سائل يتعقب عليه فيما يفعله بخلقه من حياة وموت وصحة ومرض، وغير ذلك وجميع الخلق. مسؤولون عن أفعالهم، ومحاسبون عليها.