خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ
٨١
وَمِنَ ٱلشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ
٨٢
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
٨٣
فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ
٨٤
-الأنبياء

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى: { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً } إلى قوله: { وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ }.
أي: وسخرنا لسليمان الريح عاصفة. وعصوفها، شدة هبوبها، تجري بأمر سليمان إلى الأرض التي / باركنا فيها، يعني إلى أرض الشام. وكانت تجري به وبأصحابه إلى حيث شاء، ثم تعود به إلى منزله بالشام.
وقال وهب بن منبه: كان سليمان إذا خرج من مجلسه عكف عليه الطير وقام له الإنس والجن، حتى يجلس على سريره. وكان امرأ غزاء، قلما يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا تاه حتى يذله، وكان إذا أراد الغزو، أمر بعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب كلها، حتى إذا حمل معه ما يريد، أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته، حتى إذا استفلت، أمر الرخاء، فمرته شهراً في روحته وشهراً في غدوته إلى حيث أراد. وهو قوله تعالى ذكره: { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } وقوله: { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ }.
ثم قال تعالى: { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ }.
أي: بصلاح كل الخلق، وبما أعطينا سليمان مما فيه صلاح له وللخلق، عالمين بذلك، لا يخفى علينا منه شيء.
ثم قال تعالى: { وَمِنَ ٱلشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ }.
أي: وسخرنا له من الشياطين قوماً يغوصون له في البحر، "ويعملون عملاً دون ذلك" يعني البنيان والتماثيل والمحاريب وغير ذلك من الأعمال.
قال الفراء: دون ذلك: أي: سوى ذلك.
فإن قيل: كيف تهيأ للجن هذه الأعمال من البنيان العظيم واستخراج الدر من قعور البحار وغير ذلك، وأجسامهم رقيقة ضعيفة لا تقدر على حمل الأجسام العظام ولا تقدر على ضر الناس إلا بالوسوسة لضعفهم ورقة أجسامهم. فالجواب أن الذين سخروا لهذه الأعمال أعطاهم الله قوة على ذلك، وذلك من إحدى المعجزات لسليمان. فلما مات سليمان، سلبهم الله تعالى تلك القوة، وردهم على خلقتهم الأولى، فلا يقدرون الآن على حمل الأجسام الكثيفة ونقلها. ولو أظهروا ذلك، وقدروا عليه، لدخلت على الناس شبهة من جهتهم وتوهيناً لمعجزات الرسل. وكذلك سخر الطير له بأن زاد في فهمها عنه وقبولها لأمره، وخوفها عقابه، وذلك من معجزات سليمان. فلما مات، زال ذلك عنها، ورجعت إلى ما خلقت عليه.
ثم قال تعالى: { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ }.
أي: لأعمالهم وأعدادهم وطاعتهم له، حافظين.
وقيل: المعنى: وكنا لهم حافظين، أن يفسدوا ما عملوا.
وقيل: حافظون لهم أن يهربوا منه ويمتنعوا عليه فحفظهم بما شاء من ملائكة أو جن مثلهم طائعين لله.
ثم قال تعالى: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ }. أي: واذكر يا محمد أيوب حين نادى ربه، وقد مسه الضر والبلاء. رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له دعاءه فكشفنا ما به من ضر. ويروى أنه ما نادى إلا بعد تسع سنين، وكان الضر الذي نزل به اختباراً من الله تعالى له، وامتحاناً. وكان الله قد وسع عليه في دنياه، وأعطاه ولداً وأهلاً، فاختبره الله بهلاك ماله فشكر وعلم أنه من عند الله. ثم ابتلاه بذهاب أهله وولده فصبر وشكر، ثم ابتلاه بالبلاء في جسمه، فتناثر لحمه، وتذود جسمه وعظم عليه البلاء حتى أخرجه أهل بلده من قريتهم، ورموه على تل من الأرض خارج القرية وكان إبليس في خلال تلك المحن يتصور له ويستفزه أن يكفر بنعم الله أو يغضب لما حل عليه، ولم يجد فيه إحالة عن شكره وذكره، ولم يبق من أهله إلا امرأة واحدة تقوم عليه وتكسب له، وإبليس اللعين يتلطف أن يستفز أحدهما بزلة أو كفر، فلم يقدر على ذلك.
قال وهب بن منبه: فبلغني أنها التمست له يوماً من الأيام ما تطعمه، فما وجدت شيئاً حتى جزت قرناً من رأسها فباعته برغيف فأتته فعشته إياه. قال وهب: فلبث في ذلك البلاء ثلاث سنين.
وقال الحسن البصري: مكث في ذلك البلاء تسع سنين وستة أشهر ملقى على رماد في جانب القرية، فلما اشتد بلاؤه وعظمت مصيبته أراد الله تعالى أن يفرج عنه، فقيل له: يا أيوب، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك وقد وهبت لك أهلك ومثلهم معهم وولدك، ومثلهم معهم، وعمرك ومثله معه، لتكون لمن خلفك آية، وتكون عبرة لأهل البلاء، وعزاء للصابرين. فركض برجله، وانفرجت له عين فدخل فيها فاغتسل. فأذهب الله عنه كل ما كان به من البلاء، ثم خرج وجلس، وأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه، فلم تجده، وقامت كالواهلة ملتدمة، ثم قالت: يا عبد الله، هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان ها هنا؟ قال: لا، ثم تبسم فعرفته واعتنقته.
قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده، ما فارقته من عناقه حتى موجهاً كل مال لهما وولد.
ويروى أن الله جل ذكره رد عليه أهله ومثلهم معهم، وأمطر عليه فراشاً من ذهب، فجمع حتى ملأ كل ما أراد، وأقبل يشحن في ثيابه فأوحى الله إليه، أما يكفيك ما جمعت حتى تشحن في قميصك؟ فقال أيوب: وما يشبع من خيرك؟
ويروى أن إبليس اللعين تمثل لامرأة أيوب صلى الله عليه وسلم في هيئة شريفة ومركب له هيبة، وقال [لها]:
أنت صاحبة أيوب المبتلى؟ فقالت: نعم. قال: هل تعرفينني؟ قالت: لا. فقال: أنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت لأنه عبد إله السماء وتركني. ولو سجد لي سجدة واحدة لرددت عليك وعليه كل ما كان لكما من مال وولد. ثم مثل لها أباهم ببطن الوادي الذي لقيها فيه وقال إن صاحبك أكل طعاماً ولم يسمنى عليه لعوفي مما به من البلاء، فرجعت امرأة أيوب إليه، فأخبرته بما قال لها وما أراها فقال لها أيوب، قد أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك. ثم أقسم أن الله عافاه ليضربنها مائة ضربة.
قال ابن عباس: لما ابتلاه الله بما ابتلاه [ولم يشأ] الدعاء في أن يكشف عنه ما به من ضر، غير أنه كان يذكر الله كثيراً ولا يزيده البلاء في الله إلا رغبة وحسن إيمان، فلما انتهى الكتاب أجله أذن له في الدعاء فدعا، فكشف ما به، ورد عليه مثل أهله وماله الذين ذهبوا، ولم يرد عليه الذي هلك، لكن وعده أن يوليه إياهم في الآخرة، قال مجاهد. قال: خُيِّرَ أيوب أن يرد عليه أهله ومثلهم معهم في الدنيا، أو يعطى في الدنيا مثل أهله، ويرد عليه في الآخرة أهله، فاختار أن يردوا عليه في الآخرة ويعطى في الدنيا مثلهم، وقال ابن عباس.
وقال الحسن: رد عليه ماله الذي ذهب ومثلهم معهم من النسل.
ثم قال: { رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ }.
أي: ورحمناه رحمة ليتذكروا بذلك ويتعظوا.
وروى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"مكث أيوب به بلاؤه ثمانية عشر سنة. فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان ويروحان عليه، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم: تعلم، والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، له ثمان عشر سنة بهذا الضر، لم يرحمه الله فيكشف ما به، فأخبر الذي يقول أيوب بقول صاحبه بحضرتهما، فقال أيوب: ما أدري ما تقولان، غير أن الله يعلم إن كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله ويحلفان، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق" .
وروي عن الليث أنه قال: كان الذي أصاب أيوب أنه دخل مع أهل قريته على ملكهم جبار من الجبابرة في بعض ما كان من ظلمة للناس، فكلموه، فأبلغوا في كلامهم، فرفق أيوب في كلامه مخافة منه على زرعه، فقال الله له: يا أيوب أتقيت عبداً من عبيدي من أجل زرعك، فنزل به ما نزل ذكره ابن وهب.
وعن الليث أنه قال: بلغني أنه قيل لأيوب صلوات الله عليه: ما لك لا تسأل الله العافية؟ قال: إني لأستحي من الله أن أسأله العافية حتى يمر بي من البلاء ما مر بي من الرخاء.
وقيل: إن الذي كان حدث به داء يقال له الأكلة، فكان جسمه يتآكل ويتساقط حتى شغل عن القيام بماله، فذهب ماله وزال جميع ملكه، وحتى أن قومه أخرجوه من جوارهم، فصار في طريق من أطراف البلاد بحيث لا يجد فيه غذاء إلا ما يجده الفقراء الزمناء، وهو صابر مع ذلك، يحتسب، عارف بعدل الله في ذلك أنه لم يختر له، ولا فعل به إلا ما حسن نظره في باب الدين أو أنه فعل ذلك به ليعوضه من نعيم الجنة ما هو أنفع له وأصلح مما سلبه من ماله وصحة جسمه، فكان إبليس اللعين يؤذيه بالوسوسة، ويؤذي أهله بذلك، ويوسوس إلى جيرانه في إخراجه عنهم، وإبعاده منهم. فعند ذلك دعا الله في كشف ما به، فاستجاب له لا إله إلا هو، فكشف ضره، ورزقه من المال والأهل أكثر مما كان قبل ذلك.
قوله: { وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ } قيل: معناه: ليتعظ العابدون فيما يصيبهم من المحن بأيوب، فيصبروا ويحتسبوا ذلك عند الله، كما فعل أيوب. ولا يجوز لأحد أن يتأول في قوله تعالى: { أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } فهو الذي أمرضه، وألقى الضر في بدنه، ولا يكون ذلك إلا من عند الله وبأمره وإرادته يفعل ما يشاء، ويبتلي عباده بما يشاء، ليكفر عنهم سيئاتهم، وليثيبهم بما أصابهم. ففي كل قدر قدره الله على العبد المؤمن خير له، إما في عاجل أمره أو آجله، فعلى هذا يعبد الله من فهم عنه.
وقيل: إن الذي أصابه إبليس، إنما هو ما وسوس إليه به وإلى أهله، فكان ذلك الذي شكا به إلى الله.