خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً
٦٨
يُضَاعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً
٦٩
إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٧٠
وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى ٱللَّهِ مَتاباً
٧١
وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً
٧٢
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً
٧٣
-الفرقان

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ }، إلى قوله: { صُمّاً وَعُمْيَاناً }.
أي: والذين يخلصون لله العبادة، والدعاء، ولا يقتلون النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وهو كفر بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس فيقتل بها، ولا يزنون فيأتون ما حرم الله.
ثم قال تعالى ذكره: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً }، أي: من يفعل / العبادة لغير الله أو يقتل نفساً بغير حق، أو يزني يلق عذاب الآثام أي: عقابها، وعقابها: مضاعفة العذاب، والتخليد في النار مهاناً. قال مجاهد وعكرمة: الآثام: واد في جهنم. وسيبويه وغيره من النحويين: يقدرونه بمعنى يلق جزاء الآثام.
ثم قال تعالى: { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ }، الآية وروي: أن هذه الآية نزلت في قوم من المشركين، أرادوا الدخول في الإسلام، وقد عملوا في الكفر أشياء من هذه الذنوب فخافوا ألا ينفعهم مع ما سلف من ذنوبهم. فنزلت هذه الآية، ونزل:
{ { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } [الزمر: 53] الآية، ونزلت: { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ }، فهي مخصوصة فيمن أسلم، وقد كان عمل هذه الكبائر في حال كفره، ويدل على أن هذا الاستثناء في الكفار قوله { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ }، فقرن الإيمان مع التوبة.
وقيل: هذه الآية منسوخة بالتي في النساء قاله زيد بن ثابت وذكر أن آية النساء التي نزلت بعد آية الفرقان بستة أشهر.
وقال الضحاك: بين السورتين ثماني حجج. وذكره تعالى للإيمان مع التوبة يدل على أنه محكم في الكفار، وآية النساء إنما هي في المؤمنين: يقتلون المؤمنين فكلاهما محكم غير منسوخ في وجه النظر.
وعن ابن عباس أنه قال: قرأنا هذه الآية: { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ }، الآية، بسنتين حتى نزلت: { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً }، الآية قال: فما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح بشيء فرحه بها، وبسورة:
{ { إِنَّا فَتَحْنَا } [الفتح: 1].
ثم قال تعالى: { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ }، قال ابن عباس: معناه: كانوا قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك، فحولهم إلى الحسنات، فأبدلهم الله مكان السيآت حسنات. أي: مكان عمل الحسنات.
وعن ابن عباس أنه قال: يبدل بكل مكان سيئة عملها حسنة يعملها في الدنيا.
وقيل معناه: أولئك يبدل الله قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الإسلام فيبدله بالشرك إيماناً.
قال ابن جبير: نزلت في وحشي وأصحابه. قالوا: كيف لنا بالتوبة، وقد عبدنا الأوثان وقتلنا المؤمنين، ونكحنا المشركات؟ فأنزل الله تعالى { إِلاَّ مَن تَابَ }، الآية.
فأبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الله، وبقتالهم المؤمنين: قتالهم المشركين، وبنكاح المشركات نكاح المؤمنات.
وروي عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يعطى العبد كتابه بيمينه، فيقرأ سيآته، ويقرأ الناس حسناته ثم يحول صحيفته، فيحول الله سيآته حسنات، فيقرأ هو حسناته ويقرأ الناس من سيئاته حسنات، فيقول الناس: ما كان لهذا العبد من سيئة، قال: ثم يعرف بعمله، ثم يغفر الله له" .
وعن ابن عباس: أبدلوا بالشرك إيماناً، وبالقتل إمساكاً، وبالزنا إحصاناً.
وقال ابن المسيب: روى عطاء عن ابن عباس: تصير سيآتهم حسنات لهم يوم القيامة.
وروى أبو ذر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة. ثم قال: يؤتى برجل يوم القيامة فيقال: نَحُّوا كِبارَ ذنوبه، وسلوه عن صغارها، قال: فيقال له: عملت كذا في يوم كذا، وعملت كذا في يوم كذا، قال: فيقول: يا رب لقد عملت أشياء ما أراها هنا، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. قال: فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة" .
قال الحسن: قوم يقولون التبديل في الآخرة يوم القيامة، وليس كذلك إنما التبديل في الدنيا يبدلهم الله إيماناً من الشرك، وإخلاصاً من الشرك، وإحصاناً من الفجور.
قال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة حسنة، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة.
واختار الطبري: أن يكون المعنى: يبدل الله أعمالهم في الشرك حسنات في الإسلام بنقلهم عن ما / يسخطه إلى ما يرضاه.
ثم قال تعالى: { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً }، أي: ذا غفر عن ذنوب من تاب من عباده، وراجع طاعته، وذا رحمة به أن يعاقبه على ذنوبه بعد توبته منها.
ثم قال تعالى: { وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى ٱللَّهِ مَتاباً } أي: ومن تاب من الشرك بالله، وآمن بالله ورسوله، وعمل صالحاً فيما أمره الله به { فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى ٱللَّهِ مَتاباً }، أي: توبة مؤكدة لأنه إذا تاب من الشرك، فقد تاب من عظيم، فإذا عمل صالحاً فقد أكد توبته.
ثم قال تعالى: { وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ }، يعني الشرك، قاله الضحاك.
وقيل: المعنى: فإنه يرجع إلى الله رجوعاً فيجازيه على توبته وعمله. والثاني ليس من الأول لأنه يراد به العبث، والأول يراد به الرجوع عن الكفر، والمعاصي.
وقال مجاهد الزور: الغناء، أي: لا يسمعون الغناء، وهو قول محمد بن الحنفية.
وقال ابن جريج: هو الكذب.
وقيل: إنهم كانوا إذا ذكروا النكاح كَنَّوا عنه.
وعن ابن عباس: أن الزور هنا أعياد المشركين وكنائسهم. والزور الباطل.
وعن ابن مسعود أنه قال: عدلت شهادة الزور بالشرك بالله. ثم قرأ الآية، وروي مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قالها في خطبة له. تقديره: يشهدون الشهادة الزور.
وقيل: الزور: الكذب والخنا والسفه، فهو في المعنى: لا يشهدون كل مشهد يكون فيه ذلك، أي: لا يحضرونه، وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بغير صفته، حتى يخيل إلى من سمعه أو رآه أنه بخلاف ما هو به، فالشرك يحسن عند متبعه، والغناء كذلك، وكذلك الكذب. فمعنى الآية على هذا المعنى: والذين لا يحضرون شيئاً من الباطل.
ثم قال تعالى: { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً }، أي: إذا مروا بمن يلغو عليهم من المشركين ويؤذيهم مروا كراماً، أي: أعرضوا عنهم وصفحوا.
وقيل معناه: إذا مروا في كلامهم بذكر النكاح كنوا عنه، قاله مجاهد.
وقيل: المعنى: إذا مروا بما كان المشركون فيه من الباطل مروا منكرين له. قاله ابن زيد.
وقال الحسن: اللغو هنا المعاصي كلها، واللغو في كلام العرب: كلُّ ما يجب أن يلغى ويطرح من كلام، أو فعل باطل.
وقيل: هذه الآية منسوخة بقتال المشركين، لأنه أمرهم بعد ذلك إذا مروا باللغو الذي هو الشرك أن يقاتلوا أهله، وإذا مروا باللغو الذي هو معصية أن يغيروه، ولم يكونوا أمروا بذلك بمكة. ومعنى { مَرُّوا كِراماً }، أي: أكرموا أنفسهم عن الجلوس والخوض مع من يلغو.
ثم قال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً }.
أي: والذين إذا ذكرهم مذكر بحجج ربهم وأدلته، لم يقفوا على تلك الحجج صمّاً لا يسمعونها، وعمياً لا يبصرونها. ولكنهم أيقاظ القلوب فهماء العقول.
والكافر بخلاف ذلك لأنه لا ينتفع بما يسمع وما يبصر، فصار بمنزلة من لا يسمع ولا يبصر، ومعنى { يَخِرُّواْ } يقيموا على ذلك، كما يقال: شتمت فلاناً فقام يبكي، أي: فظل يبكي، ولا قيام هناك، ولعله كان مضطجعاً. ويقول: نهيت فلاناً فقعد يشتمني أي: فجعل يشتمني، ولعله كان قائماً. فجرى ذلك على مخاطبة العرب، ولا خُرور ثَمَّ، وقيل المعنى: لم يتغافلوا عنها ويتركونها فيكونون بمنزلة من لا يسمع ولا يرى.
وقيل المعنى: لم يسجدوا صماً وعمياناً بل سجدوا سامعين، فيكون بمنزلة قول الشاعر:

بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ولم تكثر القتلى بها حين سلت

أي: إنما أغمدوها بعد أن كثرت القتلى.
وقيل المعنى: إنهم إذا أمروا بمعروف، أو نهوا عن منكر لم يتغافلوا عن ذلك وقبلوه.