قوله تعالى ذكره: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ} إلى قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} أي: كما ختم على قلوب هؤلاء أنهم لا يؤمنون بهذا القرآن، ولو نزلناه على بعض الأعجمين، فقرأه عليهم، كذلك سلكه التكذيب / والكفر في قلوب المجرمين، ومعنى: سلكناه: أدخلناه. والهاء في سلكناه، تعود على قوله {مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}، التقدير: كذلك أدخلنا ترك الإيمان في قلوب المجرمين.
قال ابن جريج: سلكناه: يعني الكفر.
وقال ابن زيد: الشرك، فليس يؤمنون حتى يعاينوا العذاب. وكذلك قال الحسن.
ثم قال: {فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، أي: يأتهم العذاب فجأة وهم لا يعلمون بمجيئه. فيقولوا حين يأتهم فجأة: {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ}، أي: يؤخر عن هذا العذاب وينسأ في آجالنا لتتوب من شركنا.
ثم قال تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}، أي: يستعجل هؤلاء المشركون بالعذاب لقولهم لن نؤمن لك حتى تسقط السماء، كما زعمت، علينا كسفاً.
ثم قال: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ}، أي أرأيت يا محمد، إن أخرنا في آجالهم سنين ثم جاءهم العذاب الذي كانوا يوعدون.
{مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ}، "ما" الأول في موضع نصب بأغنى. و "ما" الثانية: الفاعلة ويجوز أن تكون ما الأولى نافية، والثانية فاعلة، وتقدر حذفها من آخر الكلام. والتقدير: لم يغن عنهم الزمان الذي كانوا يمتعونه.
وقال عكرمة: عنى بالسنين: عمر الدنيا.
ثم قال: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} أي: وما أهلكنا من قرية من القرى التي تقدم ذكرها، ومن غيرها إلا لها منذرون، ينذرونهم عذاب الله، ويكذرونهم نعمه، "ذكرى" في موضع نصب على المصدر، لأن منذرون بمعنى: مذكرون. فتقف على هذا على "ذكرى" وكذلك إن نصبت "ذكرى" بإضمار فعل: أي جعلنا ذلك ذكرى لهم.
وقيل: "ذكرى" في موضع رفع على إضمار المبتدأ تقديره: تلك ذكرى، وذلك ذكرى، وإنذارنا ذكرى.
{وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ}، أي: ما كنا نظلم قرية، فنهلكها من غير إنذار وتذكرة. فتقف على هذا على "منذرون" ثم تبتدئ "ذكرى" أي: هذا القرآن ذكرى للمتذكرين، ودل على هذا الإضمار قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَاطِينُ} الآية، أي: القرآن ذكرى للمتذكرين، لم تنزل به الشياطين {وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}.
ثم قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَاطِينُ}، أي: ما تنزلت الشياطين بهذا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن نزل به عليه الروح الأمين وهو جبريل صلى الله عليه وسلم. وقرأ الحسن: الشياطون بالواو وهو غلط لأنه جمع مكسر إعرابه في آخره.
ثم قال تعالى: {وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}، أي: وما يتأتى للشياطين أن ينزلوا بالقرآن، ولا يصلح لهم ذلك ولا يستطيعون أن ينزلوا به، لأنهم لا يصلون إلى استماعه في المكان الذي هو به من السماء.
{إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}، أي: إن الشياطين عن سمع القرآن في المكان الذي هو به لمعزولون، فكيف يستطيعون ان ينزلوا به، والسمع مصدر في موضع الاستماع.
ثم قال: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ}، أي: قل يا محمد: لمن كفر لا تدع مع الله إلهاً آخر.
{فَتَكُونَ مِنَ ٱلْمُعَذَّبِينَ}، وقيل: هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به جميع الخلق. ومعناه إنه خوطب بذلك ليعلمه الله حكمه فيمن عبد غيره كائناً ما كان، ودليل هذا قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ}، فهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بلا اختلاف، والمعنى: أنذرهم لئلا يتكلوا على نسبهم، وقرابتهم منك فيدعوا ما يجب عليهم. ولما نزلت هذه الآية بدأ النبي صلى الله عليه وسلم ببني جده، وولده فحذرهم. وقالت عائشة رضي الله عنها: " لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا صفية بنت عبد المطلب، يا فاطمة بنت رسول الله، يا بني عبد المطلب: إني لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ما شئتم" .
وقال ابن عباس: "لما نزلت هذه الآية: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ثم نادى: يا صباحاه، فاجتمع الناس إليه فبين رجل يجيء وبين آخر يبعث رسوله، فقال: يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني يا بني / أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد تغير عليكم صدقتموني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تباً لكم سائر اليوم، ما دعوتموني إلا لهذا؟.. فنزلت {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ}" السورة.
ثم قال تعالى: {وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ}، أي: ألن لهم جانبك.
{فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ}، أي إن عصاك عشيرتك في إنذارك لهم وأبوا إلا الإقامة على كفرهم أي: من عملكم، وعبادتكم الأصنام.
ثم قال: {وَتَوكَّلْ عَلَى ٱلْعَزِيزِ}، أي العزيز في نقمته من أعدائه، {ٱلرَّحِيمِ} لمن تاب من كفره.
ثم قال: {ٱلَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}، أي: تقوم إلى صلاتك.
قال مجاهد: حين تقوم أينما كنت.
ثم قال: {وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّاجِدِينَ}، أي: ونرى تقلبك في صلاتك حين تركع وتسجد، وتقوم وتقعد. قاله ابن عباس وعكرمة، وعن ابن عباس معناه: وتقلبك في الطهور من طهر إلى طهر.
{إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ}، أي: السميع دعاءك، وتلاوتك، العليم بما تعمل أنت وغيرك.
ثم قال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ}، أي: على من تنزل الشياطين من الناس.
{تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}، أي: كذاب أثيم، أي: آثم.
قال قتادة: هم الكهنة تسرق الجن السمع، ثم يأتون به إلى أوليائهم من الإنس.
ثم قال: {يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}، أي: يلق الشياطين ما استمعت إلى الكهنة. قاله مجاهد. وأكثر الكهنة كاذبون. وقيل: المعنى يلق الكهنة السمع أي: يسمعونه ويعقلونه {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}،. يعني الكهنة أيضاً.
قالت عائشة: كانت الشياطين تسترق السمع فتجيء بكلمة حق فتقذفها في أذن وليها. قالت: وتزيد فيها أكثر من مائة كذبة.